جرافيتي



جرافيتي


بقلم مصطفى مدثر

كتب على الحائط الذي ألصق عليه سريره "وف عز الكلام، سكت الكلام". احتج مسؤول الداخلية ومسح العبارة فقام هو بإعادة كتابتها، كان مسؤول الداخلية هو المكوجي في ورديته الأخرى فقام بحرق بنطاله بالمكواة. ظل على السرير وقد ارتاح قليلاً من احتراق البنطال. على الأقل سيرمي الناس غيابه من الإمتحان في البنطال وبذلك ابتعدت الظنون من معنى العبارة.
في العصر، وصاحبنا في خسر حقيقي من فشله في ايجاد معنى سائغ ومقبول لما كتبه. وأثناء ذلك دخل اثنان لا يعرف سوى أنهما من أولاد سنة تالتة طب أو ناس مشغولين ولبرهة مارسا انشغالهما في محاولة فهم العبارة وقال أحدهم شيئاً لم يكن له علاقة بالطب: "آآآ.. صاحبنا يشير لفشل جولة المفاوضات مع الخمير الحمر!" وانتبه الآخر لأن هذا عين الحل السهل لمعضلات الداخلية من هذا النوع! وخرج الاثنان دون أن يوجها له أي كلام. وبعد دقائق لمح سيارة تسير على الاسفلت في اتجاه السماء ولكنها بالطبع انحنت وهي تعبر كوبري الحرية وبمجرد تعرفه على كونها تاكسي انطلقت منه مجسات غير مرئية وعادت له بالأفكار التي كانت تعتمل في رأس سائق التاكسي فقال: أوه، نو- هذا كثير هذا لا يطاق.
بعد دقائق وضع صاحب التاكسي (سفة) ضخمة بالضبط في اللحظة التي دخل عليه الغرفة. لم يكن مجهولاً لديه ولكنه لا يعرف 

اسمه. لكنه،حقيقة، عرف كل شيئ. فقرشي زميله في الغرفة الذي صار كثير التغيب بزعم المذاكرة، وهو لا يذاكر أبداً، كان مشغولاً بجس آثار العبارة المكتوبة على الحائط وحريصاً على تدويرها وهي أصلاً مدوّرة. كان قد سمع قرشي يحادث ثالثهما الذي لم يكن يعرف العبارة المكتوبة على الحائط لأنه مشغول بعشرات أقسى منها مكتوبات في الكتب. سمع هذا المكب على النصوص الغليظة يقول لقرشي المكب على مؤامراته التي لا شأن لها بالطب أو الصيدلة: ياخي ما تكبّر الموضوع. انها فعلاً أيام سكوت الكلام. كان رجل المؤامرات يخرج مع ثالثهما ولكنه لا يذهب للمكتبة أو حجرات القراءة (الريدنج رومز). كان حريصاً على كذا ملحق يحرزها في نهاية العام كدأبه.
صاحب التاكسي سلّم وجلس قبالة العبارة المكتوبة  برونق واضح على الحائط. فعل ذلك لدقائق ثم فجأة أخذ يتمايل مع ما اعتمل في نفسه من جراء العبارة مما سيسهل اهراقه لاحقاً، تماماً ك ل بن العُشر، ثم قال: ياخي! ياخي! ياسلام ياخ وكمان خطاط. أنا جبت معاي علبة بوهية سمحة والليلة ما بمشي من هنا لو ما كتبت لي العبارة دي في القزاز الورا.
سأله بعيون شريرة: القزاز الورا؟ ثم انتفض واقفاً وصرخ من النافذة في مسؤول الداخلية: انت يا بكري، يازفت يابكري. الداخلية دي فيها تكّاسي وانت تقعد تحرق لي في البناطلين! ثم فتح دولابه كما يفتحه رجل المطافي لأن بداخله نار ولبس البنطلون المحروق الذي يظهر فخذه الأيمن للغاشي والماشي وخلع جلبابه كأن خبرية قد جاءته أن بداخله عقرب ومزع فنيلته الداخلية وهجم على سائق التاكسي لكن التكّاسي كان قد أفلت من الباب. وبدأت مطاردة عجيبة تابعها عدد من الطلاب المنتظرين أدوارهم في الحمام، ولقلة عقل اللحظة، خرجوا لها بملابسهم الداخلية وقال احدهم: ياخي هو دا كلام شنو السكت دا! زولك دا جن عديل. رد عليه الآخر: ما قرأ ولا صفحة في البايوكيمستري! دي فرفرات ساكت.
عاد صاحبنا ولا يعرف أحد من أين أو كيف أتى بعود شجرة عشر يحمله في يده. همس أحدهم وهو يلف بشكيره حول وسطه: والله عود العشر دا إلاّ يكون رماه التكّاسي من العربية بعد هرب.
ودخل صاحبنا مخفوراً بنظرات تدّعي التصديق والمؤازرة لحاله. وجلس على السرير المقابل للعبارة على الحائط وراح يتأملها فخطر بباله سؤال: كيف لا يعرف بكري مصدر العبارة؟ وهو يستمع للراديو كل يوم. فقام وناداه: يا بكري، يا زفت يابكري. تعال.
وحضر بكري، حذراً، ليكلمه من النافذة فسأله: يعني انت ما بتعرف عربي؟ صمت بكري. فقال له: عبدالحليم حافظ بيغني الغنية دي كل يوم. عامل ما سمعتها. فساله بكري ببراءة: عبدالحليم غني قال شنو؟ فقال له: غنى قال شنو؟ جايبين لي تكّاسي؟ يا أنا في الداخلية دي يا انت والزفت الاسمو قرشي دا؟ رجع بكري بخطوات تقول مافيش فايدة. فلحقه بعبارة: أيوا، أمشي إنت أحرق لي بناطلين أولاد الناس!
ثم أضاف لنفسه: أتاريني ماسك الهوا بإيديا!
وانتبه لكونه لم يزل يمسك عود العٌشر الهزيل فرماه ولكنه انتبه لشيئ آخر. كان قرشي وراءه في تلك اللحظة يستمع لكل ما تفوّه به.
سلّم قرشي وفي هدوء جلس يفكر. ثم قال بنفس الهدوء: أعتقد أن فرويد تحدث عن كلام يسكت وحاجات بسيطة زي دي!
ففاجأه زاعقاً: ياخي اتلهي. انت ذاتك لسع ما أدوكم سايكولوجي. في سنة كم انت هسع؟ ضحك قرشي من السؤال وأضاف الكلمة الناقصة: يا شاطر؟ لكنه اهتم بالسؤال فأجاب: سنة تانية طب!
فقال له: يبقى فعلاً تتلهي! الكلام دا ليهو أكتر من سنة. الكلام وقف، سكت ليهو أكتر من سنة. الحب لما ينتهي، العقلاء يقولون سكت الكلام لأنه دائماً يسكت أثناء كلامهم هم الذي لا ينبغي أن يسكت!
فقال له قرشي في حيرة: كلام شنو؟
وبدأت مطاردة جديدة!
هذه المرة لم يجد عود عشر ولو حتى من غير لبن عشر. فدخل (السفرة) إثر فكرة طارئة وملأ حَلّة من الحليب الوفير. وتربص بقرشي فصب عليه اللبن كله. انقلب قرشي، كما توقّع، إلى قرد فقاده من يده وعلّمه الأشياء كلها وكيف يمسح تلك العبارة من الحائط ثم قال له: شوف، اسمع، مافي قرد بيخش أمتحانات في كلية الطب، فاهم؟ أشوفك في الكلية ح أخليك تنطط في الشجر وما تنزل إلاّ في قاعة امتحانات الاسنان. مفهوم؟
وتقافز قرشي فرحاً وأخذ يكشف أسنانه لسكان الداخلية بطريقة قردية ثم يرجع للكتابة التي مسحها، يوليها ظهره تارةً ووجه أخرى حتى قال أحدهم: والله، يا دوبك الكلام سكت.
                    

published 2014-10-15 1:44 pm ET.



Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality