حكايات قصيرة، حسن الجزولي



مدد

عندما راح يحكي معاناة المتطوعين في تلك الحرب اللعينة التي فُرضت عليهم فانتزعتهم من أحضان أسرهم وضحكات أطفالهم إلى أتون تلك المعارك، كان السحاب يتجمع في فضاء السماء الزرقاء بالخارج، ثم واصل الحكايات عن معاناتهم، دون أن يتطرق بشكل تفصيلي لما حلّ به هو شخصياً، كان يتحدث بحيادية دون أن يحمل أي ضغائن حتى للجانب الآخر من الذين كانوا يحاربونهم، إعتبر أن الجميع ضحايا لمواقف متشابكة ومتباينة من ناحية التقديرات والمواقف ووجهات النظر، في تلك الليلة وهم داخل ذاك العنبر الذي جمعهم مع أشتات من شعوب وقبائل أخرى  داخل المعسكر النائي، لمع البرق فجأة وانهمرت السماء مدراراً. عنّ له أن يمارس لهوه الجنوني وهو طفل في قريته، فخلع ببطء حذائه العسكري، ومد رجله الخشبية خارج نافذة العنبر، فبللت قطرات المطر الخشب السميك، بينما أخذ هو غفوة. 
في الصباح وعندما نهض باكراً لاحظ ثمة زهرة برية خضراء ،، قد نبتت بغتة على حافة الرجل الخشبية.

تباعد

وسط زحمة السوق وضوضاء المكان، كان قد إعتراني بعض ضيق -  تحوّل إلى كاملٍ فيما بعد - من إلحاح الباعة ومحاولات جرجرتهم لي وللآخرين المتبضعين إلى ما يفترشونه. إخترته عشوائياً لكي أبتاع منه، كانت بضاعته عن حق جاذبة، يبين فيها اخضرار مزرعته  على سطح (الخيش) الندي بماء النيل، وكان ما جذبني أكثر هو تناسق الألوان وتداخلها ، الأحمر مع البرتقالي والأخضر يانع، ثم بهاء حزم الجرجير وربطات النعناع الطازجة ، كان خضاره جاذباً ومخضّراً عن حق. ولأمر لا أدريه – ربما بسبب زحمة السوق وضوضاء المكان - فقد إنتهرته فجأة بسبب (إشكالية الفكة)! ،، وبدا حديثي معه جافاً وجارحاً ، ولأمرٍ ما أيضاً فضلت بتأفف وغضب غير مشروع بتاتاً إعادة كل تلك البضاعة اليانعة إليه، وهو يجول بنظراته الكسيفة بيني وبين قراري المجحف، وكأنه أحس بافتقاده إتمام بيعة كانت نضرة بالنسبة له، ربما تبدو بالنسبة لي عابرة، ولكنها بحسابات تضريباته في التجارة والتبضع، فقد كانت قطعاً تمثّل بالنسبة له، تشهيات من خرج في صباحه يبتغي رزقاً حلالاً وفرحاً سعيداً، والعيد  يطرق الأبواب، وقد أُنذر منذ فترة كافية، ولا عذر من بعد ذلك ، وها هم أطفاله على الأبواب ينتظرون مقدمه بأحلامهم، وهئنذا أعاجله بضربة قرار مرتجل في لحظة غضب غير مشروعة البتة،، ثم أغادر متأففاً من المكان وإلحاح الباعة على الطرقات وزحمة المكان، وكأني مالك المكان والكون.
بعد نحو من أشهرٍ قلائل تقريباً، تنازعتني فيها النفس الأمارة بالمراجعة الدائمة والأسف االداهم  والهم والغم بكل ثقيل وتقيل، فقد بدت لي لحظة إمتعاضي وتصرفي مع الرجل – ذاك الذي بسوق الخضروات النضرة -  ماثلة في كل حين، وأنا بعيد عنه، عن الأهل والناس والأمكنة، عن السوق وضجيجة، والباعة والحاحهم والبضائع وثمينها من غثها. بعيدٌ أتمثّل أهلي وعشيرتي وأسرتي والناس في غربتي وغربتهم وأوبتنا، ولا أرى سوى شوقي فقط، حنيني فقط ، حنيني لأوبتي، وداخل النفس الأمارة بالمراجعة الدائمة والأسف الداهم والهم والغم الهائم بكل ثقيل وتقيل، إعترتني رغبة في أن أغذ خطى السير، كي أسرع خطى المسير بالاعتذار وطلب العفو، وهكذا قبعت وبالي ببلبالي يشتغل هماً وغماً بالرجل سيد الخضار بالسوق العتيق.
وهكذا ،، وعند حلول رجعتي، دلف قلبي لمكان بضاعته حال أن حط طائري الميمون مطار البلد، فأسرعت الخطى بعد أقل من يوم لعودتي إلى مكان سوقه،  دلفت التفت شرقاً وغرباً، نظرة وبرهة،، معلومة وأخرى ، حتى سمعت ما سمعت ، فهالني ما سمعت.
لا أعلم بالضبط متى تم حمله على آلة حدباء، أبَعدْ غضبتي غير المشروعة بقليل  – تلك التي اعترفت بها -  أم كانت بنحو متباعد.
فلقد ترك رحيل الرجل في قلبي هماً لا يستطيع أي أحد الاستيثاق من مكنونه.
رباه ، هل غادر من متردم ،  أم كان في نفسه شئ مني؟!

عابرتان في سفر عابر

التقتها صدفة في أحد المطارات. كان المكان والزمان يحتشدان بعبق السفر وقرار المغادرة وأسباب اللجوء، فكل  لملاذه. في جلوسها المصادف دون سابق معرفة أو ترتيب وجدت نفسها بقرب مقعد الأخرى في بهو المغادرة الفاره. سحناتها كانت سحنات الأخرى وملامح الأخرى كانت ملامحها ،، ومع ذلك لاحظت ثمة تحفظ ما من جانب الأخرى في محادثتها. لاذت - بعدما لامست نفور الأخرى -بصمتها وبواقي وحشتها وضياعها هي الأخرى،  وحينما نادى منادي المطار بأن يتهيأ كل نحو طائرته، إتجهت إحداهن شطر الجنوب بينما تهيأت الأخرى لنواحي الشمال في البهو الممتد، وقتها لاحظت إحداهن بين لازمات نهوضها للمغادرة أن الأخرى تعاينها بنظرات أقرب  للتلاقي منها إلى التباعد والنفور، وفي منتصف البهو نحو الطريق لمعبر المغادرة الذي اتجهت إليه كل منهما في تقاطع نحو السفر، توقفت هي فجأة  في منتصف العبور نحو الجنوب بينما الأخرى كذلك فجأةً عن المسير نحو الشمال، إلتفتت كل منهما نحو الآخرى قبل أن تتواريا خلف تقاطعات  السفر، بينما كل منهما  تتابع  وقع خطاوي الأخرى، كان ثمة تحفز في نظرات كل منهما تجاه الأخرى، بالأحرى كانت ثمة مودة نحو بعضهما البعض، وكان هذا بمثابة شعور متبادل منذ جلوسهما متقاربات في انتظار المغادرة، واصلت كل منهما النظر نحو الأخرى بينما هن يغذذن المسير نحو المغادرة، وقبيل أن يواريهما الفاصل الأخير من الممر، توقفتا فجأة. لم تمر بضع دقائق إلا ووجدت كل من المرأتين نفسها  تعود مهرولة باندفاع نحو الأخرى،  وبينما كان عناقهما يمتد ويطول ، كان جمع البهو الغادي والرائح ينظر لحظتها بمزيج من الدهشة لهذا التراحم المغري للبحث  بين أضابير خرائط الدنيا عن مثل هذا التوادد الذي تناسل والمشاعر التي تدفقت في بهو المطار بين سحنتين متقاربتين في الملامح والشبه ، ولكن بفارق طفيف، هو أن كلاً من المرأتين كانت تحمل جواز سفر يختلف في العبور نحو مرافئ الغربة وملاجئ الكون الفسيح.

Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality