جليد نسّاي - 2/3


3/2- جليد نسّاي


قراءة في رواية الرجل الخراب
عبد العزيز بركة ساكن
الجزء الثاني


() هنالك شبهة استلهام، إن كان ذلك ممكناً أصلاً، في مستهل القصيدة، أو الابيجراف، نجدها في أحبولة حكائية صاغها المؤلف حول فكرة وردت في ذلك الإبيجراف، تحكي عن مصير سِيبل Sibyl التي تمنت طول العمر، ونسيت أن تتمنى معه دوام الشباب، فإنتهى بها الأمر إلى وهنٍ تاقت منه لموتها. إنها هنا، في شخص لوديا شولتز، التي قفز عمرها من 71 عاماً "بصورة ميتافيزيقية إلى 103 عاماً"، أو هي أشبه ما تكون بذلك، أعياها طول المكث في الدنيا وصار حالها أشبه بحال لبيد بن ربيعة العامري حين قال: ولقد سئمتُ من الحياة وطولِها  وسؤالِ هذا الناسِ كيف لبيد.
ويتضح لنا أن مضاهاة حساب السن العمرية لا معنى له لأن المقصود هو تبيان قبول لوديا بالموت، رغم خوفها منه، كتحرير لروحها من إسار النفس.
() في فصل سيرة المرأة من الرواية نذكر تايريسياس في قسم لعبة شطرنج من قصيدة إليوت، تايريسياس الذي هو كل النساء وكل الرجال ويرى كل مضامين القصيدة لأنه بحسب الأسطورة كان رجلاً ثم تم تحويله لإمرأة، بواسطة الآلهة غالباً، ثم قفل عائداً كرجل وتنبأ بسقوط طيبة وأشياء أُخر. إنه درويش ونورا في آن وبلا شخصيهما. إن لعبة الشطرنج في القصيدة، بتناولها للحوار بين الرجل والمرأة، تخدم  هنا كمجاز، للعبة الإغواء، وتشير إلى فهم للزواج والجنسانية يتنزل بهما لمجرد أن يكونا جزءً من لعبة استخطاطيات بين الرجل والمرأة، يصبح الجنس فيها مجرد إغواء أو إغتصاب يفضي للإجهاض. والرواية تحدثنا  في أكثر من لحظة من لحظاتها عن الإغتصاب. فهناك إغتصاب نُورا نفسها من أبيها النمساوي، ثم الإغتصابات والإعتداءات المتخيّلَة من قبل درويش لإبنته من نورا والتي أقحم فيها خيالُ درويش آخرين غيره. إن ثيمة الإغتصاب في قصيدة إليوت لهي من أكبر ما إستلهمه ساكن، وسنرى في المقطع التالي من فصل الرواية الأخير كيف أن ساكن، وإن لم يشر إلى اسطورة فيلوميلا، إلاّ أنه رمز إليها بشكل واضح حيث كتب عن خروج درويش في أوج أزمته، هائماً على وجهه و"تمشى في الطريق التي يحبها جداً، بل هي الطريق الوحيدة التي يسلكها للعمل، وهي ليست القريبة أو المختصرة، ولكنها تمر بنقاط مهمة جداً بالنسبة له، أولها ما يسميه شجرة العصافير، قرب مخبز الفلاح،….حيث يسمع فيها دعاء الكروان يومياً وهو يتحاور مع طيور الببغاوات المحبوسة في قفص كبير في الشرفة المقابلة...يظن دائماً درويش أن طيور الكروان الطليقة تضع خطط هروب فاشلة للببغاوات كل يوم…..هذا الشيئ يعجبه جداً ويحزنه أيضاً. يتوقف قليلاً، يترك كل جسده وخياله وروحه لتغريد الطيور. في كثير من الأحيان تسيل دمعة بصورة غير إرادية على خده.." فالإحالة إلى الطيور يقبع وراءها الإرث الأسطوري. وقصة فيلوميلا، التي يستخدمها إليوت للتدليل على توقف الانسان عن إنتاج أرض خصبة كمقابل للأرض الخراب، هي  بإختصار أن فيلوميلا إغتصبها تيريوس زوج أختها، وقطع لسانها حتى لا تحكي ما حدث، لكنها نسجت قصتها لأختها على قماش. وبدافع الإنتقام قامت الأختان بذبح المولود وتقديمه كعشاء لتيريوس، وحين أقدم تيريوس على ذبح الأختين تدخلت الآلهة وحوّلت ثلاثتهم إلى طيور، ربما لكون الآلهة كانت مشغولة بقضايا أهم والله أعلم. فالطائر، كروان أو هزار، هو تعبير عن حزن مركب في نفس درويش، بدأ من ضياعه، مروراً بزواجه غير السعيد وبوساوس الإغتصاب.
يحكي ع ب ساكن في فصل سيرة المرأة كيف أن نورا ودرويش جلسا، في مواجهة عقلية cerebral بحتة، تماماً كلعبة الشطرنج، ليقررا مصيريهما معاً، على خلفية احتياج درويش لها في النمسا، واحتياجها هي لأن تنعم بميراث أمها، التي لم تتركه لها، بل كتبته بإسم درويش. يكتب ساكن "مثل تاجرين متجولين جشعين، جلسنا وجها لوجه، شرحت لي أن وضعي القانوني في النمسا، حسبما عرفت مني بالتفاصيل من قبل، يقضي بأنهم سوف يرحلونني إلى مصر أو السودان ول استأنفت مئة مرة.." إلى أن تقول نورا "والطريق الوحيد للحصول على الإقامة هنا، هو الزواج من نمساوية. وهذه النمساوية هي أنا بالذات."وتزوج درويش من نورا بلا عاطفة، بلا حب.
() على مستوى وصف المكان الذي يتطور فيه السرد، نجد أن ساكن استطاع أن يجد معادلاً لفكرة إليوت، في قسم قصيدته المعنوّن بلعبة الشطرنج،عن زقاق الجرذ إذ يقول إليوت على لسان أحد أبطاله المأزومين: " أعتقد أننا في زقاق الجرذ، حيث فقد الموتى عظامهم"، في إشارة إلى التخثر والموت، بينما يصف ساكنُ مكاناً، أسماه بطله درويش ممر الرجل المقتول، وذلك في فصل، توني لا يكره العرب، فدرويش كان يتخيّل إبنته، غير منزهٍ لها من سقطة ما، أو هو يراها بهاجس يتعلق بثيمة الشرف، "عندما سمعت البنتُ هاتفاً يناديها أسرعتِ الخطى، تلفتت للمرة الأخيرة، ثم مضت في اتجاه الصوت بينما زادت ضربات قلبها، وتعرّقت كفها وهي تحس بنشوة عارمة تجتاح كل خلية من خلايا جسدها، خليط من الخوف والشعور بالأمان، وهو الاحساس المجنون الذي ينتاب المرأة عندما تلتقي برجل على انفراد أول مرة، ذات مساء به نصف قمر، في الزقاق الذي تنمو أعشاب موسمية على جانبيه، المتفرع من الشارع العام الذي يطلق عليه القرويون اسم طريق الرجل المقتول." والمكان هنا مختلفٌ عليه، إن جاز هذا القول، وطرف الخلاف الثاني هنا هو الراوي، ما سنعود إليه وشيكاً. المكان هنا فيه ذاكرة مختلطة، وربما شاحبة، إنه في النمسا لكن السودان يقع بداخله تماماً. هو مكان نقلته لنا حالة الحلم اليقظان التي كان فيها درويش. إنه المكان الذي يتنبأ بمصائر مقبلة. لكن ساكناً لا يتوقف عن صنع مكان لا ينتمي إلى الأحداث الراهنة، فخيال درويش لا يهدأ له بال. نقرأ "كان قد خلد إلى النوم مثل كل مَن بالقرية، ولكنه استيقظ على صوت إبن عمه، الأمين ود النور، يصيح قرب رأسه…" وهذا المكان هو من صنع خيال درويش، فنحن لا نعرف إبن عم درويش الأمين هذا إلاّ الآن ولمرة واحدة فقط. وعندما يتسلل درويش والأمين، في السودان غالباً، مروراً بنورا النائمة على فراشها في سلفالدن بالنسما، يلاحظ درويش الغضب بادياً على وجه إبن عمه وأن شرف الأسرة في خطر، فيقرر بشكل حازم: سندفنهما أحياء. ثم يواصل ساكن في سرد هذا المشهد التراجيدي، دون أن يعنيه نوع الشعور الذي يتولد لحظتها عند قارئه "بينما كان يأخذ سكينته الكبيرة من تحت المخدة، ويمتشق عصاه وبطاريته، خرجا وهما يهرولان في صمت ظاهري وضجيج عنيف في صدريهما نحو الزقاق الذي تنمو أعشاب موسمية على جانبيه، المتفرع من الشارع العام الذي يطلق عليه القرويون اسم طريق الرجل المقتول.
نتناول في المقال الأخير كيف عصفت الطبيعة الهدامة لقصيدة الأرض الخراب ببطل الرواية، درويش، وبالرواية نفسها.

Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality