الوالد العليم

الوالد العليم
نص قصصي
------------------



- لِف بشارع موشار.
- موشار دا ياتو؟
- بكان البنك الأخضر.
لَفّ بشارع موشار.
- أقيف هنا.
صمت محدثه برهة، كأنه يتحسس الشارع من ثقب في جيبه اليمين الذي دس فيه يده.
- شفت محل الاسكافي دا، جنب التقاطع؟
أصغى إليه وهو يراقب، من مرآة السيارة، عسكري المرور البعيد المترنح.
- أها دا مكان حوادث معلوم.
ثم دعاه لمعاينة التقاطع مضيفاً:
- اشارة المرور الصفراء هنا بتتأخر شوية ما زي الباقيات.
لم يكن السائق مكترثاً رغم جدة المعلومات عليه. عبرت بذهنه، بلا وعد بتحقق، عبارة دارجة. آثر أن يتأمل طبلون السيارة بأسطحه اللامعة وعداداته الأنيقة.
سمعه يقول بنبرة جادة:
- فهمت كلامي؟ دا مكان حوادث!
عنت له فكرة محاججة بين أب وأبيه، علّها تكون مقبولة فقال:
- أبوي ياخي الموضوع دا..
قاطعه قائلاً:
- ما تقول لي. أمشي حزا الطريق السريع ولف بشارع باقار.
- يا بوي ما بعرفو. ما كان عندي رخصة.
- خلاص هسع عندك رخصة وعندك عربيتي الجديدة دي. بس تعمل حسابك. خد يمينك، قبل الاشارة. حاسب، وراك شاحنة.
في شارع باقار أشار عليه أن يلف في ثاني شارع على اليمين.
قال له: يابوُي ألف بي جاي ليه؟ ال بيجيبني هنا شنو؟
فاجأه بتعبير نادر:
- جست ان كيس just in case! أنا بوري فيك حتات الحوادث.
- يا بوُي ان شاء الله خير!
- لا، لا، لازم تعرف محلات الحوادث. الفجات ال بتحصل فيها حوادث.
لف بثاني يمين فأبصر لمرة أخرى أناقة باهرة في العدادت المشتعلة أمامه. كانت سيارة هوندا موديل العام وظن لوهلة أنه ربما لف مقوّدها بأسرع من حركة الشارع. تنازعته لوهلة فكرة ما سيقوله أبوه وما جادت به ذاكرته. لكن الوالد كان خلف سراب عجيزة ما. ارتاح لتذكر شيئ لم يكن متأكداً أنه كان شاهداً عليه. كان معهم في الحي شخص يهوى الدراجات. أمضى، كما يقولون، قرابة نصف عمره في إثبات قدرته على لف مقوّد الدراجة بحيث يمكنه رؤية النور الأحمر الخلفي، الذي يكون عادة وعملياً ودائماً خلف سائق الدراجة. كان رأيه أن هذه المسألة هي مسألة نظرية بحتة، ولذلك شن عليه عديد من الأصحاب حرب سخرية استمرت لعقود من الزمن.
أحس بأن من العبث أن ينظر لقيادته لسيارة والدة كفرصة لدحض أو اثبات امكانية لف أي شيئ بحيث.....
صاح فيه الوالد:
- هنا، في طرف الميدان دا قاعد تحصل حوادث.
- يا بوي ياخي دي مبالغات س.....
زمجر فيه الوالد:
- ما تقول لي مبالغات.
حاول أن يبتسم للمرآة لكنها كانت في وضعها الصحيح الذي لا تعكس فيه ابتسامة السائق لسلامة الجميع فقال:
- كيف يعني حتات بتحصل فيها حوادث؟
- أسمعني أنا دا. إنت لو عشت كتير ح تعرف الحوادث دي بيوزعوها كيف!
"كل دا عشان العربية الجديدة؟"، لم يقل هذا الكلام. كاد، عوضاً عنه، أن يتفوّه ب أستغفر الله. وجدها غير مضمونة كعبارة فآثر الصمت.
واصل أبوه بينما استقرت السيارة في هذا الشارع شيئاً حتى صار لوقع اطاراتها على الطريق وتيرة مدندنة:
- أنا عارف الشوارع دي من أربعين سنة وأي شارع عارف حصل فيه كم حادث ودايماً الحوادث كانت بتحصل تقريباً في نفس الحتة.
صمت برهة ليحك جانبه الأيمن، لحسن الحظ بالنسبة لإبنه الجالس يساره، ثم واصل:
- اليوم داك موش ناس المرور جو ركّبوا اشارات في شارع ناس خالتك ستيلا؟ سمح شنو؟ ما اتأكدوا انو الحوادث هناك.... انو ديك حتة حوادث!
حاول ان يتذاكى في تمرير غبطة تذكره لميعاد له مساء اليوم كما لو كان سببها رغبته في توسيع النقاش فقال:
- سمح ما بلغت الحكومة مالك؟
- بي شنو؟
وهنا رأى أنها واو، ولّعت، ماذا يقول، حاص حيناً ثم دلقها هكذا:
- انت موش قلت عارف حتات الحوادث؟
واراحه رد الوالد العزيز إذ قال:
- أبلّغ الحكومة عشان محلات الحوادث تتغيّر.
وهذه واو أخرى. أي والد هذا الذي يبحث عن استقرار أماكن الحوادث وليس ايقافها. لكن هذه منطقة في النقاش خطرة جداً فكان لابد من الصمت. صمت واذعان. لف بهنا ولف بهناك. لكنه لاحظ أن ما قاله أبوه عن الحوادث في شارع موشار، مكان البنك الأخضر، عاد يقوله بنفس الهندسية العشوائية عن شارع مبيور، مكان البنك الأحمر. فهنا رأى ما يستوجب خروجه منتصراً على الصمت بأن يقول، في سخرية مخفية بقدر الامكان، شيئاً. أن يشير إلى هذا الانتصار الحيي بشكل ما، بيد أن الوالد كان، بكيفية ما، عليماً بهذا فبدرت منه مسترخيةّعبارة هه! وواصل ملكدماً جلبابه بين فخذيه:
- ياخي الموضوع دا كبير. عارف، مرات الحوادث بتحصل للعربية، موش للزول السايق. وعشان ما نصرف بنزين كان ممكن أوريك حتات بتحصل فيها حوادث متكررة موش في الحتة ذاتها لكن في حتات تانية. فهي شوية حوادث بس بيعيدو توزيعها وتتشاف كتيرة.
وكانت تلك أم الضجائج في عواء الفلسفة، لكنه أحب كلمة عارف الاستطرادية تلك. قالها الوالد بحنية والد، استطاعت أن تكشف له في رنتها مدى الخرق الذي كان ينتويه في الأوقات التالية لوصولهم البيت، الأوقات التالية لدلقه هذا الكيس المترف بالافتراضات الذي هو أبوه!
وبالطبع أتته الأحلام المناسبة لنوم بعد الظهيرة من شاكلة أن يتراءى له المسيح وهو ينوء بثقل اشارة مرور خضراء في مشهد تخريج (؟) موظفين نزلوا لتوهم للمعاش. وأن قططاً تتقافز من صافرة شرطي مرور حين ينفخ فيها محذّراً من تحريك جسد سيدة مطروحة أرضاً ريثما تحضر سيارة الضرائب. أو تعتذر سلمى عن ميعادها والأخريات.
ومن رقراق عرق دافق أتاه صوت أمه يقول له:
- يا ولد قوم ودي أبوك دا الجامع، عقد بت أشوال!
فهبّ، فظاً على أمه غليظ الصوت، قائلاً:
- يمه! قول ليه حلف. تاني... قولي ليهو ما عندو رخصة.  ما....عمل حادث. قول ليه تميم عمل حادث. يحرق دي....
وكان الوالد يسترق السمع، في صمته المعاشي،  إلى لحظة أخذوه.....للحوادث.


Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality