في اضاءة فركة، أو نزع السُتر



قراءة في رواية فركة لطه جعفر

(أنزلت هنا، عن طريق الخطأ، مقالاً لكاتب آخر، آسف لذلك)
الاربعاء 29/05/2013

في إضاءة (فِركة) أو نزع السُتُر


رواية (فركة) للأديب الشاب طه جعفر الصادرة عن مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي في طبعتها الأولى يناير 2011 رواية خيالية توثق لبعض تفاصيل واقع الرق في حقبة معينة من تاريخ السودان. وبفوزها بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في نفس العام، تجد هذه الرواية مكاناً مستحقاً بين الأدوات التي نحتاجها في سبر أغوار أزمتنا الثقافية المتحوّلة، يوماً بعد يوم، إلى تعقيد تبدو أمامه أمنيات السلام، تحت ظل مواطنة حقة ومنصفة، حلماً عصياً. ففي واقع الاستقطاب الذي تفرضه الحروب المفتعلة، و في ظل نظام غير ديمقراطي، قائم على نظرة أحادية للأمور، ترتفع الأصوات السالبة المدفوعة باستخدام نفعي للعقائد، لتضيع وسطها حقائق الوجدان المشترك ويتراجع الناس نحو حِمى القبيلة والعشيرة آخذين معهم التاريخ إلى مكامن البدايات الرطبة المعتمة.
فالرواية هي عودة بالذاكرة لبعض هذه البدايات، وتذكير مرير بما درجنا نلتف حوله، ونصم آذاننا عنه وكان الأجدر أن نتطهر من المسكوت عنه بالمجاهرة بوقائعه، ونبذ ما يفرقنا من أوهام التميز والعصبية حتى نلتفت لبناء وطن شامخ يسعنا كلنا بلا تغوّل من جهة على غيرها ولا علو لعرق على آخر.
تستهل الرواية أحداثها بمشاهد بانورامية نتعرف فيها على مكان ذي بيئة مماثلة لبيئة جنوب كردفان تزدهر فيه حيوات سكان قرية كاسي المحروسة بطبيعة رؤوم، شديدة العطاء، وذات طابع جبلي يطرح مشقة
عظيمة أمام العُداة، الذين نتعرف عليهم باكراً، وهم يتدبرون خطتهم بحذر وخوف، متقمصين هيئات التجار الجلابة ليصعدوا للقرية على ظهور الحمير العالية، فتتبدى ملامحهم العربية وأثوابهم المميزة لشيخ القرية من بين فرجات الصخور، وهو جالس يرقبهم، كما ينبغي لزعيم هو في نفس الوقت كجور وسليل كجرة. وسرعان ما تتبدد نوايا هذا النفر المعتدي في نيله مراده بالقوة فيما يسمونه بالخرت، فللقرية فتيانها الأشداء ومنهم من يحمل سلاحاً، فيعرض الغزاة المستترون ما تصنّعوا أنهم أتوا لبيعه من السلع ويركنون إلى خطة في القنص والخداع. وهؤلاء النفر غاصبون بتكوينهم، أفظاظ على غيرهم. يمتهنون صيد الرقيق والتكسب من وراء سلب الانسان عزته وكرامته، وتستوي عندهم الفرائس، فيأخذون بالشدة من يقع تحت بأسهم، غير عابئين بمدى عزته في نظر أهله. إذ هم لا يتصورون أن سكان هذه الجبال يعرفون العزة أو ينبغي لهم وينكرون عليهم معنى لحياتهم كذلك الذي يستمدون منه، هم، بأسهم. غير عابئين بألم فراق الأنسان لأهله ولا بحرقة الحشا التي يخلفها أخذهم الأبناء و البنات من أهليهم.
فركة، الصبية التي سيأخذونها بالمكيدة ومعها صويحباتها، هي الإبنة الوحيدة لشيخ القرية وكجورها سلطان ود شريف. صبية عزيزة عند أهلها فرحة بحياة الرغد وباللقمة اللذيذة من الخالات والعمات. صبية ناهد وفرعاء مقبلة على حياة ناعمة ورائقة وسط أهلها ذوي العز وأصحاب الحكاوي المستلهمة من أجداد احتفظوا بحضور خرافي في حياة العشيرة تكاد لا تميز بينهم وبين آلهتهم التي يعبدون. اختطف هؤلاء العُداة
(النهاضة) فركة وبقية الفتيات بفظاظة ووحشية واعتدوا على حارسهن الأمين إبن عم فركة المرافق لهم وربطوه وشعّبوه وأعملوا سياطهم الغليظة على ظهور البنات حتى أخرسهن العذاب. ثم هرب هؤلاء الغاصبون بفركة ورفيقاتها تحت قيادة الزاكي من أبناء البطانة وعوض الكريم الضبايني وقلة من الرباطاب والجعليين والشايقية يرافقهم من الحرس فتية من الغديات والفور. ولعلمهم بأن أهل كاسي لابد خارجون لاسترجاع بناتهم وفيهن فركة بنت سلطان ود شريف وتيّة ابن أخيه كان لا بد أن يبتعدوا سريعاً بصيدهم. وفعلاً خرج أهل فركة في طلابهم وتبعوا الآثار في دروب خطرة يتربص في وحشائها نهاضة وشذاذ آخرون وبأعداد لن يقوى أهل كاسي على مقارعتها فخافوا وعادوا خاسئين إلى جبلهم الحصين، إلى قريتهم كاسي يكسوهم ويكسوها حزن الفراق ومرارة العجز أمام العدوان. عادوا بهم ثقيل بإمرة سلطان ود شريف الذي طفق يستدعي أرواح الأجداد طوال الليل مستخدماً الماء في بخسة القرع البري وحين دخل عليه أهله طاف عليهم بنظرات كنظرات الميت وقال لهم: "تيّة والبنات جميعهن أحياء، غادروا هذا الصباح دلامي في طريقهم إلى كرتالا." ثم وجه حديثه لزوجه كادوقاي وقال لها : "فركة سترجع ولن ينتظرها منا إلاّ أنت، وستسقط أسنانك الأربعة السفلية، وعندما تعود فركة سيكون لك في ذلك الحين ولد وبنتان." وحين انتبه أهله لبخسة القرع التي تحتوي على الماء أمامه عرفن جميعاً أن ما يقوله سلطان هو ليس إلاّ الحقيقة.
تقلب الزاكي وعوض الكريم في دروب كثيرة وهم في خشية من اللصوص. ولعلها ليست خشية عادية بالنظر لقيمة الصيد الذي لا بد سيجلب لهم ثمناً عالياً وبخاصة فركة التي طوّحت بالزاكي بين أحلام وشهوة.
قيمة فركة العالية كسلعة تتبدى في الفظاعة التي تناول بها الزاكي أحد الحراس عند محاولته النيل منها،
حيث قطع الزاكي رأسه بوحشية، فهي صبية وعذراء ولا بد أن تجلب له مالاً وفيراً. وفي نفس الوقت كان الزاكي يطمع فيها لنفسه وعقله لا يني يرواح بين رنين المال والشهوة المحضة، فالفرخة الخماسية بحوالي مائة وخمسين دولار أبو مدفع، والسداسية بحوالي المائتين، والعبد بمائة . في ذات الوقت، في القرية كاسي كان عقل سلطان ود شريف يتقلب من غفوة لصحو، يهجس بالحزن، وفي كل صحو تتنزل عليه حكاية من حكايات الأجداد. حكى لهم ذات صحوٍ أن أحد الكجرة الأجداد حين دنا أجله تحوّل نصفه الأسفل إلى ثعبان يتلوى ويلمع بنور يعمي العيون، لم يصبر على مرآه سوى ابنيه الصغيرين فأخذا منه الحكمة وعلمهما كيف ينزلان المطر وكيف يجمعان الناس عند الخطر وكيف يشكران الآلهة ويصونان نسليهما بالسبر والتمائم. وبعد حديثه، انطوى ذلك الكجور في كهف مظلم. وحين انتبه الحضور لتوقف سلطان عن سرده انتبهوا أيضاً لكونهم يستمعون لجسد فارقته الروج.
مضت قافلة العداة بعزم الطمع في المال، تحفها أنات البنات المعذبات، في قيد وأسر ومشقة، وفي جوع وحر وعطش وفراق ممض للأهل والأمان والحماية، يقودها الزاكي وعوض الكريم بمعرفتهما بالدروب. ساروا شمالاً بغرب النيل متجنبين الشُلك ومن بعدهم الغِديات والفور في بطون الوديان، قاصدين شندي التي عبروا لها بالمراكب من كبنجي. وكانت فركة بتواتر مفردات القهر والإزلال على مسامعها، من قبيل فرخة وخادم وعب وفرخ وتُجم وبَهم، توقن في عذابها بأنها مأخوذة غدراً من أهلها ومن لغتها إلى عالم لغته القهر والمهانة. واصلت القافلة تحت مجادعات الدوبيت والمسدار بين الزاكي وعوض الكريم:
الهمباتة نحن أصلنا معروفين بلا حق الرجال ما عندنا تعيين
بنشيلو حمرة عين بي موت بي حياة لازم نرضي أم زين
وفي شندي تم بيع البنات في سوق الثلاثاء. الزاكي، في اشتهائه لفركة، تمنى أن يمسك ثمنها بيد وقلبها وجسدها باليد الأخرى، لكن شندي، المدينة الانداية ببيوت الدعارة، وفيها زريبة الزاكي التي تديرها له مستورة (سمحة النسوان)، وتصخب فيها دلوكة باب الله وحلاقيم مرافقاته في الغناء، كانت قمينة بأن تُنسي من يشتغل في خرت الرقيق ما يعكر صفوه إلى حين غزوة أخرى، يستبيح بها بشراً آخرين، ويقتلعهم من سماحة حياتهم الطبيعية، ومن براءة معاشرتهم للحياة.
تنتقل فركة لتكون من خدم المك، الذي دفع فيها ثمناً باهظاً. وبدخولها ديار المك، نتعرف على عوالم عجيبة من الترف القائم، في أهم مفاصله، على استغلال العبيد. ونسمع بأذني فركة حكايات من النساء المطايا، اللاتي تم استلابهن بالكامل، لحياة العبودية الكاملة والمستسلمة.
وفي هذه الأثناء، في كاسي، يتوالي تحقق نبوءات سلطان ود رحال.
الرواية مكتوبة بشهيق يهفو لأن يعقبه زفير، أو نصف نَفَس يودي بك لمقاربة جديدة للعادي والمألوف والموروث. فهي تبدأ بالدخول في موضوعها بلا تمحك وتطرح لك منذ الصفحات الأولى حمولتها من الإثارة وتُعْلمك باكراً بفظاعة الوقائع والمآلات بحيث ترى الدم والعرق وتشتم رائحة الأفواه القذرة والشهوات الرخيصة تتقاطع مع براءة أصيلة هي في نُسُك البساطة وأصداء البكارة وهي في ذات الوقت، الرواية، عودةٌ إلى التاريخ الذي لم نمتحنه ولم نسبر أعماقه قبل أن نبتلع ما طفح منها من شاكلة نحن جند الله وغيرها من الترديدات. هذا النوع من الابتلاع أو الازدراد، في القاموس الراهن للشاعرة روزمين الصياد، يتنكر لأي صلة بينه وبين عسر الهضم. فيبقى عسر الهضم عصياً على الفهم ولا نود أو نستطيع أن نرى الأمر على وجهه. ومهما اختلف الناس مع رؤية المؤلف فإن أمر الاختلاف لن يعدو كونه اعادة التفاف حول أفكار تؤسس للتابو أو تعيد انتاج الازمة الثقافية بالإعراض عن أي توصيف جديد لها لا يخضع لضمير رقابي لم نُجمع على تنصيبه. فالرواية هي في مقام التوصيف الجديد للواقع ولتأريخنا القريب المهجوس بالتعرية. ولربما كان حرص المؤلف على مثل هذا التوصيف الجديد هو السبب وراء صياغات في سرده تبدو فيها صورته هو نفسه. ولا أرى في هذا غضاضة طالما أنه لا يكتب مجرد تداعيات بل يكتب بعضاً من مشروع متكامل للحياة، حسب تصورات لا يمكن نفي قيمتها أو انكار وجودها ضمن منظومات الايدولوجيا في نسيج مجتمعنا السوداني بخاصة تلك التي برزت في لحظات تاريخية معينة ملّوحة بمشروعها من قبيل الاسهام، ليس في فهم واقعنا، بل في تغييره لصالح الانسان، متجرداً من أطماع الحوزة وبطش الجشع. و لا أتصّور أن العبارات القليلة، التي تشي بتدخل المؤلف وبسط رأيه، تنال من عفاء السرد وصعوده السديد نحو اكتماله. وبنفس هذه الرؤية فان الأسفار الروحية العديدة التي قامت بها فركة لقريتها بل وما دار عند اقتراب الرواية من نهايتها، تجيء معززة لبنية السرد، طالما قام على تأكيد القبول بفعالية الطقوس كآلية تتوسل بها الأرواح لطلب العون من الأسلاف. وفي اعتقادي أن إعطاء الاسطورة نصيبها الوافر هو من الوسائل المتاحة للمؤلف في إظهار وعيه بوجود الآخَر الثقافي كجزء من مشروعه وفي تأكيد قوة جذور الانسان الذي يظن مستلبوه أنه لا ينتمي، مثلهم، لمنظومة قيم وموروثات، ولا لتاريخ يرفد العشيرة بالمجد والشمم.
بالرغم من هذا التصوّر المناصر لتلاحم الواقع الموضوعي مع الأسطوري، فإن الرواية لا تتغاضى عن التحولات التاريخية في موضوعيتها ولا تدعي تفسيراً لها فمصير فركة كغيرها من ضحايا الاستعلاء يكون دائماً في كف عفريت لا قبل لأحد به، ولسنوات طوالـ، وفي ظني أن طه جعفر يكتفي منك كقارئ بتأمل ما كان يحدث حقيقةً للأفراد وما يشاع من أنه كان يحدث بما يرضي الله ورسوله، من شاكلة الرفق بالأرقاء، دون الحديث عن لماذا هم أرقاء في الأصل. والرواية نفسها تقع أحداثها قُبيل التفاقم الذي أحدثه الفتح التركي المصري، ويفلح المؤلف في استضافة بدايات التحول في الواقع الموضوعي لسرده. إن رواية (فِركة) بما هي أول عمل روائي للمؤلف هي رواية جديرة بالقراءة، كتبها صاحبها بلغة جميلة وفي جمل قصار مبتكرات. ومن الواضح أن المؤلف توفر على مراجع عدة تعينه في وصف الأماكن والبيئات في نبضها الحي وظرفها التاريخي، في توهيط القارئ في واقع السرد وكذلك في وصف ما تماسك ورسخ من المجتمع المديني في نسيجه القيمي ودوره في رسم مآلات الأفراد. وحقيقة لم يحدث أن وقعتُ، من قبل، على توصيف لمدينة شندي أواخر القرن التاسع عشر كالذي حاكه طه جعفر. ولا أرى في صورة الواقع التي تكشفها لنا روايته، والتي ربما كانت أقوى نبضاً بالحياة من ما عليه شندي اليوم، لا أرى فيها ما يثير عليه غضب الجعليين هذا مع التذكير بأننا إزاء عمل روائي خيالي!
تستدعي رواية (فركة) التداعي لاعداد فهرس كامل للروايات التي تتناول فكرة الاستعلاء والعنصرية وتجليات الهيمنة. وفي المكتبة السودانية الآن العديد من الروايات القائمة على تناول هذه أو تلك من القضايا المشار إليها، وبدرجات متفاوتة، مثل روايات عاطف عبد الله، مروان حامد الرشيد، الحسن البكري، أبكر آدم اسماعيل وآخرين، ربما منهم منصور الصويم. إن اكثر ما تعلمنا الرواية هو أن الانسان البسيط الأقرب منا للطبيعة وللتراب تصلح حياته، هو أيضاً، عند فحصها، في كشف قضايا انسان المدينة،لأن قضايا الانسان متجذرة في ميول الانسان وفي نزوعه نحو مكوّنات رفاهيته هو وحده.
انتهى
مصطفى مدثر 28/05/2013

Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality