لن نصبر على طعامٍ واحد


لن نصبر على طعامٍ واحد

هذا المقال تكثيف لدراسة كاملة.
كاتب المقال لا يتبع أي طريقة أو نظام غذائي

مدخل أول

في العام 1999م، نشر طبيب مختص بدراسة الأمراض الوارد ذكرها في الأناجيل ورقة بحث حول وباء طيور السمان الذي أصاب اليهود ابان تيههم في صحراء سيناء، عقب خروجهم من مصر في عهد النبي موسى. ذكر الطبيب في تلك الورقة عدداً من مشاكل الصحة العامة التي حدثت آنذاك وعلى رأسها أزمة الغذاء التي تعرض لها اليهود. ووصفت الورقة ما ورد حول هذا الأمر في التوراة بأنه كان وباءاً ناجماً عن استهلاك اليهود لكميات من طائر السلوى (السمان) وذلك بعد أن غيّر الله خط سيره وبعث أعداد هائلة منه بطلب من النبي موسى. ثم خلصت الورقة التي اشتملت على تجميع القرائن والأحوال، والأعراض، وحركة هجرة طائر السمان، ووصف الطائر نفسه، إلى أن ما حدث هو تسمم غذائي باكتيري.
معروف من رواية العهد القديم أن قوم موسى خرجوا من مصر في جماعات ضخمة وعندما جاعوا في الصحراء أرسل لهم الله، بطلب من موسى، المن والسلوى وفيراً ولكنهم كانوا قد اشتاقوا لمصر فرعون التي أكلوا فيها، رغم عبوديتهم من قبل الفراعنة، اللحوم والخضروات والأسماك. والمَن هو غذاء خرافي، نزل من السماء، مكوّن من صمغ مخبوز فيه شبت coriander، وسيتم لاحقاً تعريفه بالعسل. أما السلوى فكما أسلفنا فهو طائر السمان، المعروف، مثل الذي في اسم رواية نجيب محفوظ، السمان والخريف، وسلوى هو اسمه الوافد للعبرية ويعني فيها، ذلك الذي يجعلك تسمن. كما يعرفه بعض العرب بمسمى قتيل الرعد لأنه، كما حكوا، يموت حين يسمع صوت الرعد. وهو طائر كثير الدهن، جيد الغذاء ولا يطير إلاّ أن يطيّره أحد. على أن باحثاً في شمال افريقيا توصل لأن هذا الطائر يحب، فيما يحب، أن يأكل من بذور، تكون سامة لغيره، وتلك طبيعته، وكان الباحث الذي ذكرناه أولاً قد ناقش احتمال أن يكون سبب تسمم قوم موسى هو احتواء لحوم السمان التي أكلوها على بذور نبات الشوكران hemlock، وفيه شبه قلوي سام يقال له coniine، لكن استنتاجه النهائي هو أن ما حدث هو تسمم باكتيري. الذي حدث هو أن اليهود حين اشتاقوا لمصر فقد خصصوا أنهم اشتاقوا للحوم والأسماك وهو ما اعتبرته التوارة إساءة لله لأنه كان، لتوه، قد حرّم عليهم زنا المحارم وأن اشتياقهم للحم قد يعني شهوتهم لإتيان أهل بيتهم. ويقول الله لموسى إذا كانوا يطلبون اللحم فسأكثر لهم من السمان ومن المَن، إلى أن انتهى الأمر بحدوث كارثة غذائية لهم ترتب عليها أكلهم طائر السلوى الموبوء مما تسبب في وفاة أعداد كبيرة منهم.

مدخل ثان

ينشط علماء الأنثروبولوجيا، على أيامنا هذه، في وجهة تنوير الناس بحقائق، تراكمت في إثباتها الدلائل والقرائن والاكتشافات، تتعلق بدور الغذاء في تطورية evolution الجنس البشري لحالته الراهنة وتتكهن، كذلك، بما سيكون عليه حاله ككائن في المستقبل. وتتضافر العلوم الطبية في هذا الصدد بتقديم دلائل تشريحية ووظائفية تدعم، فيما تدعم، الإجابة الصحيحة في سؤال التغذية ودرء الأمراض المزمنة. وعلى الرغم من أن المقترحات التي يقدمها العلم الحديث تتضمن توصية عالية على أن أصلح غذاء للإنسان هو الغذاء النباتي، إلاّ أن هذا الأمر لا زال بعيداً عن أن يتحقق عند كثير من الناس بسبب الأثر القوي للثقافة والدين. ومهما قلنا عن أن آفة الإنسان هي إكثاره من أكل اللحوم والأغذية المصنعة وأن تحوّله من الأكل الطبيعي، من ما تنبت الأرض، يتناسب طردياً مع تواتر الأمراض الخطيرة مثل أمراض القلب والسكري والسرطان، فإن قوى بعينها، تسيطر على صناعة الرأي (الثقافة والدين) وصناعة الغذاء، لا تبدو هزيمتها وشيكة إلاّ إذا انضاف الغذاء الصحيح للمطالب اليومية للناشطين وتصاعد الوعي، وإنفك الناس من سلطان القهر وتسلط الرؤى القديمة والسير.
ونلخص هنا أن العلم يثبت بوضوح أن الإنسان لم يتطوّر ليأكل اللحم، ولم يتجهّز بالفك المفترس والأنياب ولا بالجهاز الهضمي للحيوانات آكلة اللحوم، ولضيق المجال، فإنه حتى تاريخ قريب، كان أكل اللحم من اختصاص الملوك وتَسمّى المرض المتعلق بعجز في تمثيل البروتين بإسم داء الملوك gout. كذلك نلخص أن الأشخاص الذين تحوّلوا إلى نباتيين اعتدلت صحتهم بشكل ملحوظ، دون إغفال أنهم ربما احتاجوا لتعويض بعض الحديد والفيتامينات وغيرهما. ونلخص كذلك  أن التلخيصين الأخيرين هما نتاج لمعرفة عميقة ومتواصلة يقوم بها العلم، دون عون يذكر من النصوص الدينية، لأنها، على أقل تقدير، ليست ذات اختصاص، أو هي في أحوال معينة قد جاءت بنصائح غذائية خاطئة ومضللة كما سنرى.

ما حدث في سيناء

قلنا أن رب موسى استجاب لإلحاح موسى، الذي بدوره ناتج عن إلحاح قومه، بعد تعديل الطلب من لحم إلى لحم طير. ولكن كيف كان اختياره؟ لقد بعث لهم طائراً مدهناً لا "يقل ضراوةً عن اللحم" وأمطرت لهم السماء خبزاً مرصعاً بالشبت dill، والشبت هو في الأساس بهار ومنّكه لا  أكثر، وخبز السماء هذا لم يكن خبز قمح أو حنطة بل كان محض صمغ. فلقد أرسل لهم الله صمغاً في الصحراء وعطشها.
لقد جاء جئير قوم موسى من الجوع واتهامهم لموسى بتجويعهم حتى الموت، نداءً طبيعياً من بشر في محنة غذائية. لكن استجابة الله لنداء موسى لم تراع توازن الغذاء على النحو الذي نفهمه في يومنا هذا، ولذلك يميل الاعتذاريون للقول بأن الجوع لم يكن القضية. بينما يشير آخرون إلى أن الله قصد أن يهلك قوم موسى، ولعل في واقعة الوباء الذي أصابهم ما يدعم هذا التفسير ولكن دعونا الآن نتناول القصة كما وردت في القرآن الكريم.

لن نصبر على طعامٍ واحد

يلمس القرآن الكريم أمراً هاماً في حكاية قوم موسى في الشتات ويرد ذلك في الآية رقم 61 من سورة البقرة ألا وهو أن قوم موسى قالوا له إننا لن نصبر على طعام واحد، وهو المَن والسلوى، وقيل طعام واحد لتعني متكرر. ويقول مفسرو الآية إن قوم موسى ملوا ذلك الطعام لأنهم بالطبع لا يملكون معرفة اليوم. فهو لم يكن محض ملل، بل هو حاجة بشرية للتنوع الغذائي. والمفسرون المسلمون يردون إلحاح قوم موسى لكونهم جشعين وغير حامدين لنعمة ربهم. وهذا حكم على قوم لم يكونوا من الوعي بحيث يفرقون بين الابنة والزوجة.
فما الذي طلبه قوم موسى على وجه التحديد؟
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
طلب قوم موسى مما تنبت الأرض، عدس وفول وبصل وثوم وعجور وبطيخ. وهذا بالضبط ما يقوله العلم اليوم.

مأزق المفسرين

إن الآية 61 من سورة البقرة هي امتحان قاس لمفسري القرآن على مر العصور. ويأتي هذا الإمتحان على مستويين، اللغة والثقافة.
فعلى مستوى اللغة تجئ جملة "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" غاية في التعقيد، إذ تطرح قضية البدل اللغوية التي ما انفك الناس يتنازعون فيها. فالذي لدينا من معرفة، حتى الآن، في قصة بني إسرائيل، هو أنهم أرادوا تنويع الغذاء، لم يقولوا احجب عنا المَن والسلوى، بل طلبوا الأشياء الواردة في الآية كإضافة لما كان يأتيهم. فلم يكن هناك بدل في أصل الأمر ولكن الآية تسألهم بسؤال الهمزة، وهو سؤال استفهام بلاغته الإنكار، أتستبدلون؟ والكلمات تبدل وبدّل واستبدل وشرى واشترى هي كلمات مرموقة في قاموس القرآن الكريم. ونرتقي في الأمر قليلاً لنلاحظ أن تبديل الأدنى بالذي هو خير فيه شئ من الغرابة إذ أنه تبديل صفة أو حال بجوهر. فأدنى هي وصف لحال، ذلك ما يقتضيه التفكير السليم، الشئ أدنى هو الشئ الأقرب. كيف تبدل ما هو أقرب بما هو خير وأقرب لا هي خير ولا شر؟ وفي كل الأحوال ما هو وجه الإنكار هنا لإستخدام الهمزة كبادئة ل تستبدلون، أتستبدلون؟ إذا كانت كل أنواع المأكولات المذكورة هي حلال؟ لكن المفسرين، كي يفهموا وجه الإنكار، قالوا إن أدنى هنا ليست بمعنى قريب، ثم قالوا هي قريب بمعنى أن ما طلبه اليهود هو من أكل هذه الدنيا الفانية، ثم عادوا وقالوا إن أدنى هي من دنؤ يدنو فهو دنئ بل هو خسيس. فحكموا على طعام طيب بأنه خسيس. وما دعاهم لذلك هو أنهم أعملوا قاعدة لزوم باء البدل للمتروك وليس للمأخوذ، ما سنعود له. صار تفسير هذه الجملة من الآية عند المسلمين هو أن الله قال لقوم موسى "أتتركون ما اختار الله لكم وتؤثرون ما هو دون؟" والمعنى أن اختيارهم طعاماً آخر، غير الذي اختاره الله لهم، هو معصية وإن كان حلالاً. وقضية البدل هي قضية مختلف فيها لأن هناك فريقين، فريق يقول إن باء البدل تتصل بالمتروك وليس بالمأخوذ ويمثلهم إبن كثير والطبري والشعراوي وآخرين. والفريق الآخر يقول إنها تتصل بالمأخوذ ويمثله شعراء العرب القدماء وأحمد شوقي. كما أن هناك، كالعادة، فريق يقول إنها تتصل بما يقتضيه السياق. وكمثال نأخذه الآن فإن أول ما يطرأ على ذهنك عندما أقول بدّلت الخاتم بالحلقة هو أنني أخذت الحلقة وتركت الخاتم، لكن المفسرين سيقولون لك، خطأ بدّلت الخاتم بالحلقة تعني تركت الحلقة وأخذت الخاتم. ولعل الآية تحيل إلى أن أصوّب شئ للمسلم غير المجتهد هو أن يأخذ بأن الباء تذهب للمتروك. وهذا ما يطول شرحه. وما أراه هو أن النص في هذا الجزء من الآية أتاح تفسيراً نفاقياً وانتهازياً.
على مستوى الثقافة، نقول إن المفسرين لم يتوانوا في تقريع قوم موسى وتوبيخهم على"ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العيش الرغيد ، و الطعام الهنيء الطيب النافع." وهذا مجرد انتصار للنص على الحقائق البدهية عن أن طعام الله على الأرض كله طيب، فيما عدا ما حرّم من غيره. والثقافي هنا هو عجزهم عن معالجة النص بمقتضى معارفهم في ذلك الزمان، والحال أن تلك الأطعمة هي التي قامت عليها فطرة الإنسان نفسه.
يقدم مفسرو القرآن الكريم شرحاً مختلفاً للمَن، فيقولون إنه كان عسلاً، ولكنهم احتفظوا له بصفة الخرافية بأن قالوا إنه عسل كان ينزل على قوم موسى من السماء. وواضح هنا أننا نشير إلى أن حكايات موسى هي من أعمدة القرآن الكريم، وأن التحريف الذي حدث في التوراة لا يظن أحدٌ أنه يمكن أن يشمل تحريف الغذاء، فلماذا كان المَن خبزاً عند اليهود وصار عسلاً عند المسلمين؟ وتمضي الآية لتقول "وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.." فالوباء الذي ترتب على المحنة الغذائية وقضى على آلاف من قوم موسى لا يبين في الآية. أما المفسرون فإن منهم من قال إن الله غضب عليهم وسكت، معتقداً إنه أضاف شيئاً، ومنهم من قال إن باءوا تعني انصرفوا. فإذا كان خبر قوم موسى عند محمد (ص) فلماذا إخفاء هذه المحرقة القديمة؟ وهل مصدر القصة واحد؟

فراع إلى أهله فجاء بعجل سمين

الآية 26 سورة الداريات.
نختم بأنه، مع علمنا، بأن الإسلام يحض على التوسط وعدم الإسراف، إلاّ أن مأكل المسلمين ومشربهم لم تغيره هذه المبادئ. إذ لم يكن محمد (ص) نباتياً، بل تحدث عن أطيب اللحم وقال انهشوا اللحم نهشاً، وقيل إنه كان يحب أكل العظام. ومن الغريب أن عمراً قال: "إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر." لكن محمداً (ص) وصحبه لم يستنوا ما يعانق ما توصل إليه إنسان اليوم. أما من خلفوهم فقد كانوا أهل مآكل بإمتياز وبلا منهج يستشرف الغد الذي نعيشه.

مراجع

Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality