جليد نساي، المقال كامللاً



جليد نسّاي

قراءة في رواية الرجل الخراب

تأليف عبد العزيز بركة ساكن
بقلم مصطفى مدثر

الجزء الأول


  • أيها القارئ المرائي، يا شبيهي، يا أخي - بودلير، شاعر فرنسي
  • الفكرة الرئيسة [عند إليوت] هي أننا، حتى ونحن ملزمون بأن نعي ماضوية الماضي..، لا نملك طريقة عادلة لحجر الماضي عن الحاضر. إن الماضي والحاضر متفاعمان، كلٌ يشي بالآخر ويوحي به، وبالمعنى المثالي كلياً الذي ينتويه إليوت ، فإن كلاً منهما يتعايش مع الآخر. ما يقترحه ت س  إليوت بإيجاز هو رؤيا للتراث الأدبي لا يوجهها كلياً التعاقب الزمني، رغم أنها تحترم هذا التعاقب. لا الماضي ولا الحاضر، ولا أي شاعر أو فنان، يملك معنىً كاملاً منفرداً- إدوارد سعيد، أستاذ الأدب الإنجليزي
  • الطريق إلى الحقيقة يمر بأرض الوساوس - شانون برودي، عاملة صيدلية.


(1)

يبدو مفارقاً، بل غرائبياً، أن تُهرع  لقصيدة ت س إليوت (الأرض الخراب) كي تعينك على فهم استلهام عبد العزيز بركة ساكن لها في كتابة روايته القصيرة، الرجل الخراب. فالمفارقة هي أن القصيدة المكتوبة في 1922، وبما عُرف عنها من تعقيد ووعورة، تحتاج هي نفسها لعشرات الشروحات، لكونها مغرقة في الإحالات لتواريخ وثقافات وأديان، بل ولغات أخرى غير لغتها الإنجليزية. وكان هذا النوع من الكتابة القائمة على الاقتباس والتضمين من ما ميز شعراء الحداثة النشاط في بدايات القرن العشرين. والغرائبي أن واقع الرواية يشتمل على مَن لا يستحسن القصيدة وهو أوربي، نورا زوجة الشخصية الرئيسة في الرواية، و مَن تجري أبياتها على لسانه، مستشرفاً لها، وهو درويش الأفريقي، الذي لا نتوفر، من الرواية، على ما يدلنا على أنه متراصف ثقافياً مع إنسان القصيدة. إن السؤال عن قيمة استلهام قصيدة الأرض الخراب في هذا العمل الأدبي لبركة ساكن يبدو معقولاً أيضاً، لكونه ينطوي على مفاضلة بين مرجعيتين نقديتين إحداهما تمثلها حداثة النص الروائي قيد البحث، لارتقائه على صعيد التعاطي مع تحولات روح العصر وانتقال الثقافي فيه من النخبوي إلى فضاء المُتشارَك، اليومي.  إذ أن نص إليوت مغلق تماماً وغير معني به القارئ العادي بينما نص ع ب ساكن متحرك وجل عمارته من اليومي، المُدرك بيسر. و المرجعية الأخرى هي مرجعية القفزة إلى الوراء، إلى قتامة أجواء ما بعد الحرب العالمية الأولى، تلك التي يوفرها نص القصيدة الحريص على تكريس فهم قدري وكارثي للحضارة الإنسانية. ولست من التقتير بحيث استكثر على الروائي إرادته أن يكون عمله ذا سياق حضاري موشى بعبارات مفتاحية وإشارات أو كليشيهات تخاطب  ذهن القارئ العصري على النحو الذي تشير إليه قراءة إدوارد سعيد لإليوت في الاقتباس من الأول أعلى هذا المقال. على أن قيمة استلهام قصيدة الأرض الخراب أمامها إشكالات أخرى ترتبت من كون القصيدة، من كثرة إحالاتها ومتحها من المتخيّل الديني، جاءت بنبوءات لم تتحقق، فليس هناك أبراج تداعت أو شهوات قُوّضت. بل يمكن النظر للقصيدة الآن كنص حداثوي محض يصف التحولات في العقل الغربي أوان ذاك، جراء ثنائية التشظي الشخصي والتشظي الأكبر، الحضاري بسبب الحرب الثانية. ونجد أن هذا الاستلهام مشار إليه في الblurb أو التعريف بالكتاب المكتوب على غلافه الخلفي وهو تعريف غير ممهور باسم مَن كتبه نقرأ فيه "مستلهماً رائعة ت س إليوت، الأرض الخراب، يرسم الروائي السوداني البارع عبر تقنيات تصوير وتجسيد فريدة ومبتكرة صورة الرجل الخراب، لنرى كيف يصيب الخراب رجلاً بأكمله..". فأمر استلهام قصيدة إليوت ليس شيئاً يسيراً يُترك لفطنة القارئ لأنه  استلهام عابر من جنس أدبي لآخر. والقصيدة، أية قصيدة، "لها جنسها المستقل عن الشكل والواقع التاريخي".

(2)

يكتب بركة ساكن في الفصل الأخير من  روايته "...والقارئ الحصيف هو الذي لا يترك مجالاً للكاتب أن يدعه يخمن نهاية الرواية، والكاتب الماكر مثل السياسي العجوز يتلاعب بالبيضة والحجر في الكف ذاتها. أما الروائي الذي يتعجل نهاية الرواية ليحرر نفسه من أجل أغراض أكثر أهمية- في ظني، وليس كل الظن إثم- فالموت أولى به" وأياً كان المعنى الذي يستوقفك من هذا الكلام فإن من باطنه، على أقل تقدير،  يأتينا الإذن بكتابة ملخص لا يفسد على من أراد قراءة الرواية شيئاً ولكن، قبل ذلك، فإن لي وصفاً  لتلك اللحظة من الرواية التي خاطب فيها المؤلف قراءه في ما يمكن أن يُعد نوعاً نادراً من أنواع الخطاب الروائي، وإن كان وصفاً بعيداً عن عالم الكتب لكنه يشير للحظة سميكة في لا تلقائيتها، وهو أن ما حدث ما حدث في الرواية مشابه لما كان يحدث في العشر دقائق الأخيرة من عمر أية مباراة كرة قدم ساخنة في إستاد أم درمان قبل عقود خلت، حيث كان ممكناً آنذاك أن تدخل المباراة، مجاناً في تلك الدقائق، لتشاهد الهدف الوحيد، الذي دفع له الناس ثمناً، ثم يئسوا وخرجوا قبل إحرازه. في تلك اللحظة الشبيهة من الرواية قرر ساكن أن تنفتح أمامه كل النهايات الممكنة، أو أن يحوّل روايته إلى ورشة عمل ناجحة، وسنرى إن كان في ذلك خرقٌ  للفعل الروائي في ناحية من هذا المقال.
الرجل الخراب، رواية عبد العزيز بركة ساكن، الصادرة عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة لسنة 2015، والتي تقع في 112  صفحة، تحكي عن  درويش، المولود لأب سوداني من أم مصرية، والذي يذهب ليعيش في أوربا وفق ذرائع دارجة، وهناك يعمل مع  مخدمته  النمساوية التي تموت تاركة له ميراثاً وابنةً يتزوجها، وينجب منها ابنته. ثم تحدثنا الرواية عن أول لقاء، وما أعقبه من  تداعيات، بين درويش وحبيب ابنته، وتشرح لنا كيف تفاعل درويش، السوداني المصري، حيال علاقة ابنته بحبيبها النمساوي.
الرواية مكتوبة بلغة سهلة ومصاغة من فسيفساء حكايات الهجرة والاغتراب، من أضابير وملفات قصص (حالات) اللجوء
السياسي  التي حوّلت واقع الناس إلى نسيج حكائي كولاجي مشغول من التماعات قطع وشظايا التجربة مهالاً عليه جليد نسّاي ، بتعبير إليوت نفسه، forgetful snow يغطي تحته كل التفاصيل كتركيب synthesis جديد لميلاد آخر، ومن فكرة التركيب الجديد المطمور تحت الجليد هذه أخذت عنواناً لهذا المقال، فالجليد ينسى دائماً أننا عائدون إلى الحياة وأن قسوة إبريل هي مصدر غبطتنا. ومن هنا نتعرف على أول تشابهات الرواية مع قصيدة إليوت. فإليوت يقول في قصيدته:
son of man you cannot say or guess, for you only know a heap of broken images
وبرغم خطورة أن يكون في بناء السرد على هذا المنوال، تعريض له لأن يكون سهل التكهن بمآلاته predictable، فيذهب سره، إلاّ أن ما يُدهش هو أن ساكن لا هاجس له تجاه هذا التكهن، كما أوضح الاقتباس منه الأخير. بل إن الرواية تمضي في حبور نحو أن لا …..تكون رواية.
سنلقي نظرة متمكثة قليلاً على بعض شواهد الاستلهام من قصيدة الأرض الخراب في صناعة رواية ساكن.

() تقول قصيدة إليوت إن الشهوة هي أساس المعاناة الإنسانية وتعرض لنا أمثلة عابرة للتخثر الأخلاقي، وللمصير الكارثي للحضارة الإنسانية أوان ذاك ثم تطرح في آخرها خارطة طريق للخلاص من خلال تحقق ثلاث تأويلات للحالة الإنسانية، أخذها إليوت من أناشيد الهندوسية Upanishads.  لكن الرواية، بينما هي لا تقدم خلاصاً كالقصيدة، تستخدم نفس فكرة التأويلات الثلاث لشرح مصير بطلها عن طريق ثلاثة شخوص غير رئيسية فيها. ونلاحظ أن قسم القصيدة الأول المسمى دفن الموتى، من أصل خمسة أقسام لها، هو الأكثر استلهاماً حيث نقرأ فيه عن ماري التي خافت من السقطة وتحررت فتذكرنا بمدام شولتز، مخدمة درويش النمساوية في الرواية، ثم نرى مدام  سوساستروس، النبية الكاذبة التي تنبئ بالموت غرقاً، فنتذكر نورا ابنة مدام شولتز التي تزوجها درويش لاحقاً، على أن لنورا حضوراً  آخر أهم في قسم آخر من القصيدة. ونتذكر أن أول شيء فعله درويش بعد موت مخدمته، هو أنه تخلص من كلابها، مستشرفاً نصيحة إليوت في نفس القسم الأول من القصيدة حين هتف بشخص قابله في الطريق اسمه استاتسن، ينبهه بالتخلص من أي كلب يمكن أن يقوم بنبش جثة الميت، قبل أن يحين ميعاد قيامته، لا أحد يدري من هو هذا الميت، وذلك لأن الكلب وفيٌ لصاحبه. فدرويش لا يود أن تزول نعمة ميراثه لمخدمته بعودتها إلى الحياة، لكن أمامنا أيضاً خيار أن نفهم أنه تخلص من كلاب السيدة شولتز لأن ثقافته الإسلامية، نوعاً، ترى في الكلب نجاسة. وفي تقديري فإن هناك استلهاماً شديد الإبهار، من هذا القسم الأول من القصيدة، لكنه أيضاً بالغ المواربة، يتمثل في مشهد السياح الآسيويين والطريقة التي وصفهم بها ساكن. فهذا المشهد هو إعادة كتابة لما خطه الشاعر إليوت عن المشهد فوق جسر لندن، لندن بريدج، ووصف الناس المتحركين فوقه كالأموات كلٌ ثبّت عينيه على قدميه. فإليوت تحدث عن إخاء أو تجاور إنساني زائف يوّحد المارة، إخاء متناقض، بل هي عزلة فكلٌ مع نفسه فقط. يكتب ساكن في فصل سيرة المرأة "كان السياح الآسيويون يعبرون صامتين، يصوّرون كل شيء…إلخ المقطع كله" فالعزلة هنا أيضاً كثيفة والكاميرا هي نفسها منظور لا يشاركك فيه أحد. وكلٌ أخ الآخر، لكنه إخاء زائف، وبهذا الفهم لتمهل ساكن عند مشهد السواح يمكن أن نجد صورة معادلة وحاكية بصدق، تماماً كصورة إليوت في القصيدة

الجزء الثاني

() هنالك شبهة استلهام، إن كان ذلك ممكناً أصلاً، في مستهل القصيدة، أو الأبيجراف نجدها في أحبولة حكائيه صاغها المؤلف حول فكرة وردت في ذلك الإبيجراف، تحكي عن مصير سِيبل Sibyl التي تمنت طول العمر، ونسيت أن تتمنى معه دوام الشباب، فانتهى بها الأمر إلى وهنٍ تاقت منه لموتها. إنها هنا، في شخص لويد شولتز، التي قفز عمرها من 71 عاماً "بصورة ميتافيزيقية إلى 103 عاماً"، أو هي أشبه ما تكون بذلك، أعياها طول المكث في الدنيا وصار حالها أشبه بحال لبيد بن ربيعة العامري حين قال: ولقد سئمتُ من الحياة وطولِها  وسؤالِ هذا الناسِ كيف لبيد.
ويتضح لنا أن مضاهاة حساب السن العمرية لا معنى له لأن المقصود هو تبيان قبول لوديا بالموت، رغم خوفها منه، كتحرير لروحها من إسار النفس.
() في فصل سيرة المرأة من الرواية نذكر تايريسياس في قسم لعبة شطرنج من قصيدة إليوت، تايريسياس الذي هو كل النساء وكل الرجال ويرى كل مضامين القصيدة لأنه بحسب الأسطورة كان رجلاً ثم تم تحويله لامرأة، بواسطة الآلهة غالباً، ثم قفل عائداً كرجل وتنبأ بسقوط طيبة وأشياء أُخر. إنه درويش ونورا في آن وبلا شخصيهما. إن لعبة الشطرنج في القصيدة، بتناولها للحوار بين الرجل والمرأة، تخدم  هنا كمجاز، للعبة الإغواء، وتشير إلى فهم للزواج والجنسانية يتنزل بهما لمجرد أن يكونا جزءً من لعبة استخطاطيات بين الرجل والمرأة، يصبح الجنس فيها مجرد إغواء أو اغتصاب يفضي للإجهاض. والرواية تحدثنا  في أكثر من لحظة من لحظاتها عن الاغتصاب. فهناك اغتصاب نُورا نفسها من أبيها النمساوي، ثم الاغتصابات والاعتداءات المتخيّلَة من قبل درويش لابنته من نورا والتي أقحم فيها خيالُ درويش آخرين غيره. إن ثيمة الاغتصاب في قصيدة إليوت لهي من أكبر ما استلهمه ساكن، وسنرى في المقطع التالي من فصل الرواية الأخير كيف أن ساكن، وإن لم يشر إلى أسطورة فيلوميلا، إلاّ أنه رمز إليها بشكل واضح حيث كتب عن خروج درويش في أوج أزمته، هائماً على وجهه و"تمشى في الطريق التي يحبها جداً، بل هي الطريق الوحيدة التي يسلكها للعمل، وهي ليست القريبة أو المختصرة، ولكنها تمر بنقاط مهمة جداً بالنسبة له، أولها ما يسميه شجرة العصافير، قرب مخبز الفلاح،….حيث يسمع فيها دعاء الكروان يومياً وهو يتحاور مع طيور الببغاوات المحبوسة في قفص كبير في الشرفة المقابلة...يظن دائماً درويش أن طيور الكروان الطليقة تضع خطط هروب فاشلة للببغاوات كل يوم…..هذا الشيء يعجبه جداً ويحزنه أيضاً. يتوقف قليلاً، يترك كل جسده وخياله وروحه لتغريد الطيور. في كثير من الأحيان تسيل دمعة بصورة غير إرادية على خده.." فالإحالة إلى الطيور يقبع وراءها الإرث الأسطوري. وقصة فيلوميلا، التي يستخدمها إليوت للتدليل على توقف الإنسان عن إنتاج أرض خصبة كمقابل للأرض الخراب، هي  باختصار أن فيلوميلا اغتصبها تيريوس زوج أختها، وقطع لسانها حتى لا تحكي ما حدث، لكنها نسجت قصتها لأختها على قماش. وبدافع الانتقام قامت الأختان بذبح المولود وتقديمه كعشاء لتيريوس، وحين أقدم تيريوس على ذبح الأختين تدخلت الآلهة وحوّلت ثلاثتهم إلى طيور، ربما لكون الآلهة كانت مشغولة بقضايا أهم والله أعلم. فالطائر، كروان أو هزار، هو تعبير عن حزن مركب في نفس درويش، بدأ من ضياعه، مروراً بزواجه غير السعيد وبوساوس الاغتصاب.
يحكي ع ب ساكن في فصل سيرة المرأة كيف أن نورا ودرويش جلسا، في مواجهة عقلية cerebral بحتة، تماماً كلعبة الشطرنج، ليقررا مصيريهما معاً، على خلفية احتياج درويش لها في النمسا، واحتياجها هي لأن تنعم بميراث أمها، التي لم تتركه لها، بل كتبته باسم درويش. يكتب ساكن "مثل تاجرين متجولين جشعين، جلسنا وجها لوجه، شرحت لي أن وضعي القانوني في النمسا، حسبما عرفت مني بالتفاصيل من قبل، يقضي بأنهم سوف يرحلونني إلى مصر أو السودان ول استأنفت مئة مرة.." إلى أن تقول نورا "والطريق الوحيد للحصول على الإقامة هنا، هو الزواج من نمساوية. وهذه النمساوية هي أنا بالذات." وتزوج درويش من نورا بلا عاطفة، بلا حب.
() على مستوى وصف المكان الذي يتطور فيه السرد، نجد أن ساكن استطاع أن يجد معادلاً لفكرة إليوت، في قسم قصيدته المعنوّن بلعبة الشطرنج، عن زقاق الجرذ إذ يقول إليوت على لسان أحد أبطاله المأزومين: " أعتقد أننا في زقاق الجرذ، حيث فقد الموتى عظامهم"، في إشارة إلى التخثر والموت، بينما يصف ساكنُ مكاناً، أسماه بطله درويش ممر الرجل المقتول، وذلك في فصل، توني لا يكره العرب، فدرويش كان يتخيّل ابنته، غير منزهٍ لها من سقطة ما، أو هو يراها بهاجس يتعلق بثيمة الشرف، "عندما سمعت البنتُ هاتفاً يناديها أسرعتِ الخطى، تلفتت للمرة الأخيرة، ثم مضت في اتجاه الصوت بينما زادت ضربات قلبها، وتعرّقت كفها وهي تحس بنشوة عارمة تجتاح كل خلية من خلايا جسدها، خليط من الخوف والشعور بالأمان، وهو الإحساس المجنون الذي ينتاب المرأة عندما تلتقي برجل على انفراد أول مرة، ذات مساء به نصف قمر، في الزقاق الذي تنمو أعشاب موسمية على جانبيه، المتفرع من الشارع العام الذي يطلق عليه القرويون اسم طريق الرجل المقتول." والمكان هنا مختلفٌ عليه، إن جاز هذا القول، وطرف الخلاف الثاني هنا هو الراوي، ما سنعود إليه وشيكاً. المكان هنا فيه ذاكرة مختلطة، وربما شاحبة، إنه في النمسا لكن السودان يقع بداخله تماماً. هو مكان نقلته لنا حالة الحلم اليقظان التي كان فيها درويش. إنه المكان الذي يتنبأ بمصائر مقبلة. لكن ساكناً لا يتوقف عن صنع مكان لا ينتمي إلى الأحداث الراهنة، فخيال درويش لا يهدأ له بال. نقرأ "كان قد خلد إلى النوم مثل كل مَن بالقرية، ولكنه استيقظ على صوت ابن عمه، الأمين ود النور، يصيح قرب رأسه…" وهذا المكان هو من صنع خيال درويش، فنحن لا نعرف ابن عم درويش الأمين هذا إلاّ الآن ولمرة واحدة فقط. وعندما يتسلل درويش والأمين، في السودان غالباً، مروراً بنورا النائمة على فراشها في سالفالدين بالنسما، يلاحظ درويش الغضب بادياً على وجه ابن عمه وأن شرف الأسرة في خطر، فيقرر بشكل حازم: سندفنهما أحياء. ثم يواصل ساكن في سرد هذا المشهد التراجيدي، دون أن يعنيه نوع الشعور الذي يتولد لحظتها عند قارئه "بينما كان يأخذ سكينته الكبيرة من تحت المخدة، و يمتشق عصاه وبطاريته، خرجا وهما يهرولان في صمت ظاهري وضجيج عنيف في صدريهما نحو الزقاق الذي تنمو أعشاب موسمية على جانبيه، المتفرع من الشارع العام الذي يطلق عليه القرويون اسم طريق الرجل المقتول.
نتناول في الجزء الأخير من هذا المقال كيف عصفت الطبيعة الهدامة لقصيدة الأرض الخراب ببطل الرواية، درويش،
و بالرواية نفسها.

الجزء الثالث

سنتناول في هذا الجزء مسألة استلهام ساكن للهدمية الطاغية في قصيدة إليوت وأنه، أي ساكن، لم يشأ لهدمه نهاية أو حل. وكذلك نتناول مسألة البلبلة التي يحدثها استلهامه الآخر المتمثل في تبديل اسم الرواية، ونقترح سبباً لاختيار ساكن أن يكون درويش طبيباً صيدلانياً، كما نناقش التجريب في الرواية وأزمة النهاية. فإلى الجزء الأخير من المقال.
أبدأ ببعض الأفكار حول اسم الرواية.
إن الإرث الدلالي لكلمة الخراب في عنوان الرواية يبدو كافياً لقبول اسمها، الرجل الخراب، ولكن عندما نعرف من الرواية أن اسمها الحالي كان قد خضع لعملية تغيير مرتين فإننا نرى أن توسيع دائرة الفحص الدلالي قد يعيننا إلى فهم أحسن للأصول الإبداعية للرواية. فاسم الرواية تحوّل تحوّلاً محكياً عنه من أزهار الليل إلى مُخرّي الكلاب واستقر عند الرجل الخراب. وقصيدة اليوت نفسها تحوّل اسمها، ربما مرة واحدة، ليستقر على الأرض الخراب. وهذا استلهام آخر للقصيدة نرصده هنا ولا ندعي الحصر.
إن المقصود هنا أن هنالك تعارضاً في دلالة الخراب في الاسمين. فبغض النظر عن كون القصيدة تعد من أكبر محاولات الابتعاد عن التناول المباشر للأشياء أدبياً، وأنها مستودعٌ هائلٌ للإحالات ومجمل قولها هو الشكوى عن عقم حياة المدينة المعاصرة، فإن دلالات الخراب فيها تتعلق بالنظرة للحياة والحضارة وتذهب بها للدعوة للعودة إلى تجدد الميلاد من خلال الروحانيات. بينما الرجل الخراب، هو كائن ذو عقل بشري محدود غير متسق مع مرجعيته الفكرية وأفعاله مجرد إذعان لإملاء الظروف، فهو بالتالي لا يمكن الوصول إليه عبر مشتركات تحققها شخصيته. فالمشكلة إزاء درويش هي قلة الداتا، في الرواية، التي تؤيد الزعم بأن شخصيته من التعقيد المعرفي بحيث يتمثل ذهنه دقائق التحوّل الذي استوجبه عليه بحثه عن حياة أحسن، في عالم مختلف. وهذا الزعم ليس مصدره المؤلف، الحقيقي أو الضمني، بل على العكس لقد حرص المؤلف على الحديث عن قلة ثقافة درويش وعن شح علاقته بالكتاب رغم أنه خريج جامعي. فأظنني أكون قد وقعت على أول نقيض للاستلهام من القصيدة، إن أنا أحسنت تبيانه.
في الفصل الأخير من الرواية، يقوم درويش بفحص أصدقائه، بعد أن خرج من بيته تاركاً زوجه وابنته مع صديق الابنة، بحثاً عن العون. ويقدم لنا المؤلف ملامح سردية لعلاقات درويش بهؤلاء الأصدقاء نرى فيها وجهاً من أوجه التعاطي الثقافي مع الآخرين. فهناك علاقة درويش براهبٍ مسيحي وبمثقفٍ كردي وصيدلي نمساوي. لكن هذه العلاقات لا تبدو كافية لكي تتجذر علاقة درويش بالثقافة لمستوى التعالق مع نص في صعوبة نص قصيدة إليوت، ولعل ضحالة أو سطحية تلك العلاقات هي التي جعلته يعدل عن أن يطلب عونهم حين حمي وطيس أزمته. ومن المفيد أن نعرف أن درويش لم يقع على أدب غربي إلاّ سماعاً من زوجته نورا وأن نورا التي تحب الأدب لم تكن تعرف قصيدة إليوت التي طلب هو منها أن تقرأها له ولم تحبها. في الحقيقة حرص المؤلف منذ بدايات الرواية على تأكيد رقة حال درويش الثقافية بتلخيص علاقته في بعض عناوين الكتب العربية حين كان في مصر و كتابين، أحدهما مرجع في الصيدلة والآخر مصحف قرآن صغير الحجم، في أوروبا، ثم نقرأ لدرويش قوله "أحياناً كنت أظن أن القدر جمعني بنورا من أجل ت س إليوت" لكن هذه المعرفة الجديدة وفي سنه العمرية المرصودة في الرواية تبدو مبتعدة نوعاً عن التخييل الواقعي mimesis . وإذا استطردنا في تأصيل علاقة درويش بالثقافة فإننا نلاحظ أشياء هامة اعتمدها ساكن في رسم شخصية درويش. فدرويش شخصية مصطنعة بشكل يفي بمقتضيات الأثر الدرامي الأعظم، شخص لا تملك إلاّ الصغار والشجب تجاهه قبل أن تأخذك القراءة بعيداً في الرواية. شخص يمكن التكهن بكل ما يقوم به لكنه يمكن أن لا يقوم بأي شيء. فهو لا بطل، و صعب ومعقّد ومؤلم، وقصته تراجيديا من صنع يديه. ودرويش  سوداني، مصري، أي كائن مزدوج في حيرته الثقافية. ثم هو صيدلي، أي منتم لقطاع يندر أن تضطره ضائقة اقتصادية لنوع الهجرة التي تكبدها، ولعله مناسباً أن أضيف هنا استلهاماً قد لا تبدو أهميته للوهلة الأولى ولكنه يستحق التوقف عنده. إنه اختيار أن يكون درويش صيدلياً. فعلى الرغم من عدم أهمية أن يكون لدرويش مهنة، لأنه لم يمارسها إلاّ في لحظة باكرة من الرواية، فإن هذا الاختيار قد يقع في صميم وفاء ساكن لفكرة استلهام قصيدة إليوت. فالصيدلي، أو الكيميائي، هو مَن نصح إحدى شخصيات إليوت في القصيدة بأخذ أقراص للإجهاض، لكنها بعد أن فعلت لم تعد لنفسها طبيعتها.
The chemist said it would be alright,
but I’ve never been the same.

وعلى كلٍ، فالصيدليان في العملين يبدوان فاشلين في مهنتهما. ومن ما أبانه المؤلف أن درويش تعرض لنفس الذي يتعرض له الأشخاص الذين لا تحرسهم ثقافة حقيقية فتم تجنيده من قبل أهل الوعي الزائف أو الجماعات المتطرفة. والرواية تحتوي على فصل كامل بعنوان الأجنبي يحكي مشكلة الهوية التي تعرض لها درويش في مصر، كون أبيه سوداني وأمه مصرية ولكن لا شيء يغير من حقيقة أن هجرته اعتبرت اقتصادية ولا علاقة لها باضطهاد عرقي، أو باختصار، "المحققون يحبون الكذبات الكبيرة" ودرويش لم تكن عنده إحداهن. ومن المناسب هنا أن أتطرق لنبيطة مصر في هذه الرواية. وكنت قد أبنت في مقالين سابقين أن وجود مصر في الروايات السودانية، الصادرة في عقدين أو أكثر، بات مما يمكن التكهن به في أي رواية جديدة تصدر. ولا غرابة في ذلك لأن مصر، لأثرها وموقعها، لا يمكن تجاهلها. وما رميت إليه من استحداث نبيطة أدبية، اسميها الآن لأول مرة نبيطة مصر، هو خلق معرفة ودراسة لهذا الأمر وآثاره أو مجرد الاستمتاع برصده. والنبيطة هي ترجمة لكلمة device. ومجرد ذكر مصر فإن نبضاً ومشهديةً عالية تعتري العمل الروائي. ومن آثار الاستخدام المجدي لنبيطة مصر تلك الحبكة التحتانية subplot التي تحكي قصة البوروندية ناديا صوميل، فهي حبكة جميلة وتشير إلى انفتاح أفق المصير إن أحسن المرء في إقدامه على الحياة وتتناقض تماماً مع انغلاق الأفق الذي  يعاني منه درويش.
إن فكرة الأرض الخراب، في القصيدة، هي فكرة صوفية أو هي دعوة ل" إدراك الحقيقة من خلال رموز الموجودات". أن الأرض التي خُربت كانت أساساً للخوف والضعة، وما موتها إلاّ بشير بانبعاثها في برزخ أبدي مشرق، وفق إملاء لفظي imperative أحادي هو Da والذي يأتي صداه ثلاثي اللفظ، داعياً للعطاء والرحمة وضبط النفس. وهذه الألفاظ تمتاز بها الهندوسية وديانات شرقية أخرى أخذها إليوت منها وضمّنها في قسم قصيدته الأخير، ما قاله الرعد. ولعل في عبارة إليوت في مقام آخر "أن الشعر فن لا شخصي، لذلك يجب أن يحدث انفصال كامل في داخل الفنان بين الإنسان الذي يعاني وبين الإنسان المبدع الذي يخلق" ما يعزز نظرته الصوفية. فلقد وضع إليوت، في قصيدته الأرض الخراب، حداً للهدم الذي أحدثته الحرب وعواقبها، لكنّ ساكن استعاض عن فكرة الأمر الثلاثي الهندوسية بفكرة النهاية الثلاثية لروايته. فدرويش عمد إلى تخريب حياته بلا توقف، وبملمح صوفي حلاجي، وإن ترتب على ضيق أفقه وإنكاره لحقائق الحياة المعاصرة، وإلى حد الإفناء. فنورا زوجه تقول في شهادتها في آخر الرواية "..ربما انطلاقاً من تلك الفكرة بالذات، هو الذي وضع خطة موته- كما اكتشفنا لاحقاً- وهو الذي كتب رسالة تقول إنه ينوي الانتحار، وعليها بصمات أصابعه وتوقيعه.." بينما كان الحلاج يقول "أريد أن أقتل هذه الملعونة" مشيراً إلى نفسه.
والنهاية التي اقترحها المؤلف وأقلع عنها قبل أن يذعن لنهاية تكتبها ثلاث شخصيات في الرواية، أو أي نهاية شبيهة بها، في تقديري، ربما هي أكثر النهايات ملاءمة. وهنا شاهد على الاستلهام في فكرة النهاية الثلاثية يتبعه مباشرة نقيض للاستلهام في دوام فكرة الهدم حتى نهاية الرواية. نقرأ ما كتبه ساكن عن النهاية التي لم يعتمدها "فكانت خطتي لإنهاء الرواية.." وهذا الاقتباس، للمناسبة، هو من صلب الرواية نفسها…"تذهب إلى عودة درويش إلى مصر أو السودان مرة أخرى، هارباً بابنته ميمي من جحيم الفساد الأخلاقي والقيمي الأوروبي.."
لقد قلت مسبقاً أن أحداث الرواية تبدو عادية ما خلا بعض إشراقات الحكي ولذلك فإن المؤلف، وهو لا شك ضليع في فنه، قد اعتمد على الاشتغال على مستوى طرائق السرد أو الانتقال من الذي يُحكى إلى كيف يُحكى. وجاء أول ذلك في مطلع الرواية حيث يضعنا المؤلف أمام الأزمة مباشرة، تماماً كما تبدأ الكثير من القصص القصيرة. ثم ينتقل من زمن لآخر عبر استرجاعات عدة، وحشايا سردية، ومشاهد، ويعمل كل ذلك فعل السحر في القارئ. ولكن المؤلف يخوض، على مرأى منا، معركة غرائبية، يتم فيها إقصاء الراوي عن مهامه، وذلك لأن الراوي "شاء أن يهتم بحدثٍ تافه عابر وقع بينما كان درويش في طريق عودته لسلفالدين بقطار الرابعة والدقيقة الثامنة بعد الظهر." وينبغي علينا إدراك أن ما يزيد من غرابة هذه المعركة هو أن أطرافها ثلاثة وأن اثنين منهم محض خيال. فنحن إزاء المؤلف ع ب ساكن والمؤلف المفهوم ضمناً، وهو الكائن المتخيّل implied author والذي نعرف أنه كاتب النص ولكن لا دليل على أنه هو المؤلف بعينه، ثم الراوي الذي لا وجود له كشخصية في الرواية. وفي حيثيات حكمه على الراوي يورد المؤلف أن ما انتواه الراوي كان "سيورط النص الأدبي في ما يسميه بعض النقاد الكلاسيكيين الحرفيين: الخروج المريع وغير المبرر فنياً عن الخط العام للتحقق السردي.." ويستطرد المؤلف في رواية مشكلات سابقة له مع رواة آخرين، مثل ما حدث في روايته الخندريس حيث "عندما رغب الراوي في تحويل الرواية إلى مغامرة بوليسية، ولم يعجبني ذلك، وقمت حينها بتولي قيادة السرد بإسمي الشخصي في فصل بأكمله. كان الأمر مخجلاً بالنسبة لي ومرهقاً، أن أكون مؤلفاً وراوياً." ومبلغ علمنا أن الأكثر عرضة لعبء السخرية في هذه الحالة هو الراوي. لكن الراوي ليس شخصية حقيقية. ولئن كانت خناقة ساكن مع الراوي كبيرة، فإنها لا ينبغي أن تجعلنا ننسى أن ساكن أوكل لراوٍ غير مضمون، هو درويش نفسه، أن يحكي فصلاً هاماً بعنوان سيرة المرأة. فدرويش غير مضمون unreliable بشهادة المؤلف نفسه. وبالطبع فإن الروائي المتمرس مثل ساكن يمكن أن يأتي بأشياء عجبا. وأنا أعرف، مثلاً، رواية موت العراب، التي قام فيها المؤلف بالإطاحة ببطل الرواية بعد أن تعوّدنا عليه ونصب محله إبن بطل الرواية كبطل جديد لتلك الرواية.
إن الاشتغال على السرد والتجريب في العمل الروائي هو أمر لا يتوقف ولكن يبدو أن مشكلة إنهاء الرواية أو جعلها ذات نهايات متعددة، على الرغم من كونها نصاً مغلقاً يمكن فهمه وفق أعراف وتوقعات مألوفة راجع الفقرة الأخيرة، أو ختمها بطرد الوقائع بكيفية تجعلها تتبدد في ناحية من الغلاف الداخلي الأخير. كل هذه ليست أموراً وشيكة الحسم لأن الناس، بحسب نقاد كثيرين، يؤولون العالم وفق البدايات والنهايات، أي حسب مبدأ الغائية. وكما ذهبت مدرسة شومسكي للقول بوجود جين لغوي فإنه ربما طلع علينا أحدهم بجين للختام. فكلنا نعشق النهايات وقد نرى فيها بدايات جديدة. وهذا يعني أننا لا زلنا نثمن عالياً التوقعات التي بنتها فينا الطرائق والتقاليد الروائية، وأنه لا زال هناك الأدب المعياري canonical الذي يحظى بسمعة طيبة، كلٌ في حيزه أو إقليمه أو يسهل الإجماع حوله. وفي المعياري يقف منتصباً، لا زال، إطار أرسطو المعروف ليردم الهوة بين ما حدث وما يراد له أن يحدث. إن النهاية التي لم يعتمدها ع ب ساكن هي التي تستجيب لتعاطف القارئ و" تصعد بحزنه لتفجّره، فتخلي نفسه من أحزانها المصيرية."، أي تولّد فيه عاطفة تفعل فعل الدواء الملطف للمزاج cathartic دون أن نغفل أن الذي يبكينا أكثر قد لا يكون أدباً جيداً. ونظرية أرسطو رغم تعرضها للنقد المرير من أعلام مثل جورج أورويل، سولجنستن وبرتولد بريخت وغيرهم إلاّ أنها لا تزال حيوية. وكلمة cathartic تعني في الأصل مليّن، لكنها تعني أيضاً ما يسبب الانعتاق الشعوري.
إذاً، وفي تقديري، فإن أزمة نهاية الرواية هي ما حمل ساكن على هذا النشاط المحموم والعالي المهنية والذي لم يكن بلا آثار جانبية، سواء على مستوى الفكر كأحد عناصر الحبكة، أم عن اللحظات غير الخيالية اقرأها غير الروائية،  أم على مستوى استجابة القارئ.
تأتي في بنية الرواية خصيصة التعقيد الفكري، ما استقام من فكر وما انجلى. ما كان ينبغي لدرويش أن يتعلمه من أزمته لأنه "أفكاره أيضاً حدث فيها بعض التغيير الذي يصفه بالإيجابي، لأنه ما عاد يرى البشر إما كفاراً أو مسلمين" وأن فكرة قبوله بالمجتمع الأوربي، الجديد عليه، لم تكن صعبة، وإن تدخل فيها البوليس أحياناً، بالنظر لامتيازاتها. إن موضوعة الهوية وكراهية الآخر والحريات لم تحظ بشرح كاف ولا عجب فالرواية قصيرة، شاء لها كاتبها أن لا تسع صراعاً فكرياً، كان يمكن أن يتم من خلال وسائط حكائية أو حوارات عميقة تسمح للقارئ باستدعاء مصائر أخرى مغايرة. وتأتي هذه الخاطرة كأمنية بأن تكون سردياتنا الكبرى هي التي تضع على المحك وتناقش الأسئلة التي لا بد من جوابها قبل أن نصير أمة.
لقد مرت بالرواية لحظات non fictional إنوجدت فيها شخوص واقعية حيّة داخل بنية الرواية. أشخاص أحياء عند ربهم يرزقون. لا بأس، هنالك أيضاً في الشعر، مثلاً، لحظات غير شعرية. لكن هذه اللحظات قد تغدو مصدراً لانزعاج القارئ فمثلاً ومنذ بداية الفصل المسمى درويش يحس القارئ بوجود راو آخر، غير معرّف، يبدو أنه الراوي الضمني أو هو المؤلف، فهنا تحدث بلبلة، بمعناها العادي وليس الفني. ثم تمضي الرواية لنقرأ: "الراوي أصر إصرارا بالغاً على وضع النقاط على الحروف… على كل سأحكيه هنا بشيء من التحفظ لا بأس به، أي بالقدر الذي لا يقلل من قيمة العمل الفني أو يخلق ارتباكاً لدى القارئ." ويتدخل هذا الصوت الذي لا نملك دليل على أنه المؤلف نفسه ليقول: "فمن غرائب الأحوال أن هذا الراوي لا يحب الحوارات." إلى أن نقرأ: "قد يتوقع القارئ الكريم...أن الرواية منذ هذه اللحظة سوف تمضي في ثلاثة محاور…" ونحن نعرف وعي المؤلف بهذا الأمر بل هو قد صدّر روايته ببيت الشعر المأخوذ من بودلير، أيها القارئ المرائي يا شبيهي يا أخي، ثم قال عنه "أما القارئ المرائي المغامر الصعلوك..فقد يكون له رأي آخر. لا ندري ما هو بصورة قاطعة." فيبدو أن القارئ مستهدفٌ بالنشاط التجريبي الذي قام به المؤلف وأنه إما أن يكون محباً للأدب أو قارئاً متمرساً، سيجد متعة في الأجزاء الأخيرة من الرواية التي تشبه ورشة عمل حول طرائق كتابة الرواية، أو يكون مستهلكاً عابراً، سيجد أن نفس هذه الأجزاء المذكورة تحكي عن أزمة في كيفية إنهاء الرواية وحسب. ومن زاوية نظرية استجابة القارئ reader response في تصريفها الفرنسي عند رولان بارث يمكن أن تنتقل المسألة لأزمة في هوية الرواية نفسها، هل هي نص قارئي readerly، مغلق، يجود على القارئ بفهم واحد. أم هي نص كاتبي writerly، مفتوح، يمكنك إنهاؤه كيف تشاء.
ختاماً، طابت لي، بحق، قراءة هذه الرواية لما يميزها من سيولة في اللغة ولما فيها من جهد الكاتب العارف بأدواته وموظفٍ لها بحكمة واقتصاد، وما كتبت هذا إلاّ ملتزماً بطريقتي في أن أعبر حيثما وسعني التعبير.





.





Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality